Powered By Blogger







مشيرة

بقلم :  سمير الفيل  
البنت مشيرة أم ضفيرتين صغيرتين سارحتين على الظهر ماتت اليوم .
مشيت في الجنازة البسيطة وكان قلبي يبكي ، ووجهها يلوح لي طوال المسافة الممتدة من جامع البحر التي خرج منه جثمانها وحتى قرافة الست الوالدة قرب " تعاليق شيحة ". بنت صغيرة بغمازتين ، ووجه باسم تستقر به عينان يسكنهما غيط برسيم أخضر في موسم النوار ..نعم هي البنت مشيرة ابنة خالتي خيرية التي تغلبني في المذاكرة بنباهتها ، وعيونها التي تضحك وبشرتها البيضاء حتى إنني كنت وسط الأولاد كلهم والبنات القادر أن أخطف يدها وأضعها على حافة الشباك وبجوارها يدي السمراء ، وأهتف بها : مصر والسودان ، وعلى ضحكنا تأتي خالتي خيرية بكوبين من الشاي المحلى بالسكر وروح النعناع ، تسألني : أمك فين ؟
وهو سؤال لا تنتظر إجابته إذ هي تعرف أنها لابد أن تأتي في موعدها قبل أن تبدأ حلقات المسلسل الإذاعي في الخامسة والربع مساء ، ثم تمتد السهرة والضحكات ، والفرفشة حتى موعد القرآن ، وقتها يسكت الجميع ، وكأن على رؤوسهن الطير ، وتبدأ التلاوة ، فتقوم مشيرة بدخول المطبخ لتعمل فناجين القهوة المحوجة بالحبهان ، وتكافئني بفنجان قهوة سكر زيادة ، ويكون من واجبي أن أفتح الأطلس ، واشرح لها تضاريس دول العالم التي تدرسها ، وأفهمها للمرة المليون .
مفتاح الخريطة : الأخضر يعني سهول ، الأزرق بحار ، البني جبال . تضحك وتقول : مفروض البني يبقى بن !
النعش فوق سيارة مكتوب عليها بخط منمنم " سيارة تكريم الإنسان " ، لكن الأكتاف شالتها داخل الخشبة وأودعوها المنحنى المعدني الأبيض . لمحتها تشير بيدها أن أجلس أمامها بالضبط كي تشرح لي محيط الدائرة ومساحتها . قال لي الأستاذ بشرى بندلي أنني لن أفهم شيئا طالما لم أحضر المنقلة والمثلث قائم الزاوية والفرجار . وصدقت نبوءته ، فحين كبرت قليلا ، وامتنعت عن ارتداء الشورت ، ودخلت الإعدادية لم أفهم مطلقا لماذا نركز بسن الفرجار على المركز ، وندور بقوس واسع يصنع هذا المحيط المنحني . كنت في رعب أن يجذبني المركز كقاع جب بلا قرار إلى عمقه المستحيل .
فضلت دائما أن أكون بعيدا عن هذا المركز ، بل بذلت محاولات مستميتة كي أخترق المحيط نفسه بأي طريقة وأهرب من الدائرة اللعينة ، وقد كانت نبيهة وذكية ، تعرف أن المساحة = ط نق2، وهو الأمر الذي لم أفهمه بسهولة ، مع قانون المحيط الذي هو 2 ط نق . وظل سوء الفهم يلازمني وسوء الحظ يتبعها ، والدائم هو الدائم ولا إله إلا الله .  شقت الجنازة شارع الحدادين ، وعرصة ساحل الغلال ، في شهر رمضان كانت تنزل في هذا الزقاق تلعب بحق الورنيش القديم لعبة " الأونة " وكنت أراها تحجل بسرعة ، وتقفز برشاقة ، وأنا محمل بأطقم كراسي السفرة والحز فوق رقبتي يؤلمني ، تراني فتتوقف خجلى ثم يدب فيها روح التحدي وتكمل لعبتها ، ولما كانت أمي قد وصفتني بالمؤذي فقد كان من الخطأ ألا أفسد توقعاتها . من السهل أن أستند لجدار بيت قديم وأزحزح الكراسي واحدا واحدا بزعم أني أستريح ، وما علي كي أبدو شريرا إلا أن أمحو بقطعة البطانة التي تسند كتفي حتى لا تدمى خطوط الطباشير على الأسفلت ، وأوقف اللعبة وقتها تندفع البنات الصغيرات : والنبي .. نكمل الأونة !
وأمتنع حتى تحضر هي ، وتضع حقلي البرسيم في عيني مباشرة فأتصنع الغضب : صغيرة أنت حتى تلعبي معهن .
أشعر بالنوار يتفتح فتزهزه الدنيا ، وتطير فراشات مبرقشة وتحط على كفي : نعم صغيرة ، لكنني أطول منك . تشب على أمشاطها فتطولني ، وتنحدر الجنازة نحو شارع البدري ببلاطاته المربعة البازلتية الصغيرة ، ونهم بأن ندخل الدرب الضيق من ناحية الحدادين ،  فتوارب المقاهي أبوابها ويقوم الرجال ، ويصوبون السبابة في مواجهة النعش الموضوع بالسيارة ، ويتلون التشهد فيما تخفف العربات المنطلقة من سرعتها ، وتركن بجوار الطوار حتى يمر المشهد .
في ركن الحجرة وجدتها تصفف شعرها ، كنا قد كبرنا ودخلنا الثانوي ، والسطح ضاق بألعابنا القديمة ، داخت أمي في علاج سعال الصدر ، لكنها تذكرت أن أمها قد حمصت قشر الرمان ،فاندفعت نحو العش الخيزراني الأعواد وسحبت حفنة من القشر ، وذهبت به للوابور الذي أشعلته ، ثم غلت القشور ، ومدت يدها بالكوب . كان شعرها أسود ، وضفيرتاها قد طالتا وانسدلا على كتفين صغيرين ، وكانت السماء في انحدارها البعيد تذكرني بالدائرة ، ويشغلني أن يكون هناك حد للأفق . راهنتها : من يمكنه أن يجري ويجري ليبلغ الأفق ؟
قالت وهي تستعيد أسماء الأبطال في ذهنها : السندباد .
قلت وأنا بين الشك واليقين : ولا هذا أيضا . تعالي نجرب أن نبلغ الأفق . أن نطول الانحدار البعيد بأيدينا . ركضنا مسافات بعيدة ، ونال منا التعب واكتشفنا أن هناك أشياء لا يمكن أن نطولها أبدا .
تابعت الجنازة سيرها ، وصرنا في صرة الميدان الشهير ، ومن بعيد كان دكان الأب تاجر الحبوب مغلقا من سنوات بعيدة بنفس القفل الضخم النحاسي ، وقد صدئت المفصلات ، لمحت ابن عمنا الدكتور لطفي وقد جاء مغبرا من السفر ، أصبح في أول صف والشمس تلهب الوجوه ، ونداءات الباعة تأتي واهنة . كان باعة المشمش قصير العمر ، والبرقوق فاكهة الذوات ، وكانت بشائر البطيخ ، وأنا أخفي عرج خفيف يناوش قدمي .
سألتني وأنا أحمل جمجمة أخيها طالب الطب بيدي : ألا تخشى أن يطلع لك صاحبها في الليل؟ تفحصت الفك واستدارة الصدغين ، ووضعتها بجوار مزهرية بها وردة قرنفل بيضاء : أنا لا أخاف . فقط لعلي حزين .فقد كانت الأحلام تتبخر ، والحجرة الملحقة بالسطوح تكشف عن شرخ كبير في السقف والجدار . قالت لي خالتي خيرية : لو انهد البيت أين نذهب ؟
وجمت للسؤال ، والتفت للسلم الخشبي الحلزوني الذي كان يسرسب بعض التراب في تكتم شديد : لا تخافي يا خالتي .  وفي لحظات الغروب تسرب إلى قلبي شجن عظيم ، وأنا أرى الإرهاق في وجهها وهي تذاكر دروس الكلية . كانت قد انعتقت من الجغرافيا ، والأطالس ، لكنها تسأل هذه المرة عن دورة حياة الكائنات . أطلعتني على فراشة محنطة وقد كتبت اسمها باللاتينية ، ومجموعة صخور ة صلبة لها أسماء عجيبة . ضحكت في وجهي وهي تسألني : هل نصير في يوم ما مثل هذه الأشياء . قبل أن أجيب سمعنا صوت ارتطام عنيف . كانت طيارتان ورقيتان قد تشابكت خيوطهما وسقطتا فوق السطح في لحظات الغسق الشاحبة . لم أجب عن السؤال المحير فقد انهمكنا في فك الخيوط المتشابكة وتخليص الطيارتين من مشكلة صنعتها الرياح .
مدخل شارع صلاح الدين مكتظ بالباعة والدراجات والسيارات المسرعة ، تتقدم الجنازة ببطء ونهر النيل الذي خلفناه وراءنا يعكس ضوء الشمس ، وخالتي خيرية تشتكيني لأمي ، لأنها تعتقد أنني أغويت ابنها نصحي
وشجعته أن يعبر النهر جيئة وذهابا ، كان رهانا قديما وقد كسبه ، حين أمسك برهان الفيومي ثيابنا ، ولما خرجنا خفنا سوء العاقبة فجلسنا نتشمس ، ولكن الجنايني طردنا فارتدينا ملابسنا على عجل ، وكشفت البقع المبتلة جريمتنا النكراء ، كان الرهان على من يستطيع أن يعبر النيل ، ويمكنه كذلك أن يحفن بيديه بعض أسماك الشبار . عبرنا بسهولة ، وتبقت المغامرة الأخيرة صعبة التحقق حتى انتزع نصحي القميص وجعل منه " شلبا " لاقتناص سمكتين . كانت الزعانف مشرعة ، والقشور الفضية تلتمع ، وقد غلبني .
وفيما كانت خالتي خيرية تكيل لي الاتهامات رأيت مشيرة تبتسم في سرها فقد عرفت أن شقيقها قد كسب الرهان ، وأصبحت في نظرها خاسرا ، ولكي أفوت عليها فرصة الشماتة والتلذذ بانهزامي أخبرت خالتي بأنه قد حصل مني على خمسين قرشا كاملة بعد عبور النهر ،ثم انطلقت اهبط السلم ممسكا بالدرابزين ، واللعنات تلاحقني ، ونظرة الانتصار رأيتها تذبل ومشيرة تحدجني بنظرة محتجة ، تمزج الصمت بالاستنكار ؛ فهي تعرف أن " علقة " ساخنة ستكون بانتظار شقيقها أما أنا فمدرب على مثل هذه الأمور . تابعتني وأنا أمرق كالسهم من السلم ، رمتني بدعائها : يا رب تموت !
اقتربنا من الجبانة ، وراح باعة السمك علي الجانبين يلمون طاولاتهم ويزحزحونها إلى الخلف قليلا ، وقد قالت لي ، أنها اختارت أن تتزوج من مهندس معماري يعمل بالعراق ، وهي فرصة لتغير نمط حياتها . رحت أحدثها عن الحر الشديد ، وقرص الشمس الذي يلتهم البدن ، وينخر العظام . كانت مصممة ، ضحكت : العمر واحد والرب واحد .  في فرحها كانت جميلة بثوب أبيض يزيدها رقة ، وجاء نصحي وعقد حاجبيه ، ومنحني سيجارة ، فسألته عن حـُـق النشوق الذي كانت أمه تفضله . لكزني بكوعه ضاحكا ، في حين دقت الدفوف ، وشعرت أن خالتي تكاد تطير من الفرحة ، كانت أمي تزغرد ، وهي تنظر للسماء البعيدة . وقتها تذكرت الدائرة بمركزها الممعن في مشاكسته ، والمحيط الذي فشلت دائما في العثور على بداية مؤكدة له .  وفي العراق انقطعت أخبارها ، لكنني علمت أنها أنجبت البنين والبنات ، ومثلها فعلتُ .
في مرة كنت أصعد درجات بنك مصر . وجدت امرأة متلفعة في الأسود الغطيس ، كانت تشير لأحد خلفي ، نظرت ورائي لم يكن سوى الجدار، ولوحة التعامل بالدولار تضيء بأسهم صاعدة هابطة . مددت يدي ، متسائلا في حيرة : حضرتك . تقصدينني أنا ؟
اقتربت ، وهي تعنفني : أترى خيالك ؟
كانت مشيرة بشحمها ولحمها ، وقد تغيرت كثيرا وانحنى ظهرها بعض الشيء ، وكانت معها فتاة رائعة الجمال بفستان أزرق مشغول بورود كبيرة : أنسيت مشيرة يا نساي ؟!
سبحان الحي الواحد القيوم ، وحدبات القبور تظهر على البعد ، والخوص الأخضر في أيدي النسوة ، والبكاء الخافت يتصاعد ببطء درجة  درجة . سلمت عليها بحرارة : لكنني لم أعرفك .
مالت تضم الفتاة من منكبيها : مشيرة الصغيرة .
ضحكت : بدون حقلي البرسيم .
كانت جميلة وبرسيمها أفتح قليلا ، ولم يكن النوار قد تفتح بعد ، فموسمه لم يقبل .
قلت لها وأنا أشير إلى السواد : ما بك؟
زوجي الله يرحمه مات في العراق . خبطت رأسي بكفي : البقاء لله .
وعليها نادى صراف البنك ، فتبادلنا العناوين وأرقام الهواتف التي لن تطلب أبدا ، وتقدمت السيارة حاملة الجثمان فتوقفت بجوار الطوار ، وأنزل النعش ،فحملته الأيدي بخشوع وورع ، وكان من المستحيل أن أنسى يدها وهي تربت علي حين فصلوني من الخدمة لدخولي دائرة السياسة بدون أن اعرف أن ط نق 2 غير ممكنة هناك ، حملقت في الأفق البعيد : أبتعد عن مكائدهم
ضحكتُ والكتاكيت تتقدم نحوها وهي تصوصو ، وخالتي تقدم لي شايا قليل السكر ، وهي تشتمني : فوق لنفسك . حرام عليك أمك .
ولقد أكدت لها أن الدائرة لم تصنع كي نسجن فيها ، وأن علينا واجب دائم أن نصنع ثغرة مهما بدت ضئيلة فهي ضرورية لتحرير أرواحنا .
قالت وهي مهمومة : الحكومة ستبهدلك .
وحين جاءت أمي وذكرتني بلعبة مصر والسودان ، كانت حافة الشباك مشغولة بصبارات ونباتات زينة ، وقلل قناوي بأغطية من الفخار المحروق ، فلم نمارس لعبتنا القديمة رغم أن قلوبنا ضحكت .
اتجهنا للمدفن ، وداست أقدام المشيعين الخوص القديم الأصفر ، وتفادينا طوبات فارقت قبور قديمة ، فيما رأيت المدخل على هيئة نصف دائرة ، وسـَّـع اللحاد الحفرة بيدين مدربتين ، صرخ في الواقفين : تصريح الدفن .
امتدت يد مرتعشة ، فتح الورقة وقرأ الاسم ، بهدوء وروية كشفوا الغطاء ، وحملوا الجثمان ، ودلدلوه ، ثم أهال اللحاد التراب ، ووقف الملقن يمارس عمله ، وكانت هي مشغولة في هذا الوقت بالذات في إفهامي أن مساحة الدائرة ط نق 2 . وكان الوجع يملأ قلبي أن الأفق هناك بعيدا وبلا انتهاء ، ربما انحدرت دمعة فقد عجزت عن رؤية الصخرة وهي تسد الحفرة واللحاد يثبتها بالجبس وخليط الإسمنت ، ولقد رأيتها تلوح لي : اذهب ، سأكون بخير ، ولم يكن ممكنا إلا أن أرى حقلي البرسيم مليئان بخضرة زاهية ، وكان النوار يهتز بتأثير الريح ، وأوشكت أن أفقد اتزاني فسمعتها ، أوقن أنها لم تكن تكذب عليَّ : لقد بلغت حد الأفق . هناك نهاية مبرقشة بالتعب والزرقة يا بن خالتي .
استعدت خضرة حقلي البرسيم وأنا أمضي وحدي نحو الشوارع المأهولة بالبشر المحزونين . كنت أعرف أنك ستدركين غايتك . وضعت رأسي على كتف خالتي التي ماتت من ربع قرن مضى . قالت لي وهي تنخرط في نحيب مؤثر : لقد سبقتك إلى هناك . أنا جهزت لها الأرائك!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ









تعقيبات حول النص:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : الدكتور زكي العيلة ـ فلسطين .

في انسيابية و تلقائية ويُسر يرصد نص (مشيرة) للقاص سمير الفيل - عبر الفضاءات التي تقطعها الجنازة من جامع البحر الذي خرجت منه وحتى قرافة الست الوالدة قرب تعاليق شيحة - العلاقة الإنسانية التي ربطت  لأعوام طويلة بين صاحبة النعش والسارد، من خلال استحضار جزئيات فسيفسائية تشي ذكرياتها الهادرة بالوجع الذي يعتصر عالمه الداخلي، وهو يتذكر ملامحها الباقية، وأسئلة كثيرة كانت هاجسه الرافض لمنطق الإذعان لضغوطات الواقع المعيش، في الوقت الذي كانت تشكل مشيره فيه معادله الموضوعي الذي كان يجمعهما تكاملاً و سَكينة تأبى الانهزام (لمحتها تشير بيدها أن أجلس أمامها بالضبط كي تشرح لي محيط الدائرة ومساحتها . قال لي الأستاذ بشرى بندلي أنني لن أفهم شيئا طالما لم أحضر المنقلة والمثلث قائم الزاوية والفرجار . وصدقت نبوءته ، فحين كبرت قليلا ، وامتنعت عن ارتداء الشورت ، ودخلت الإعدادية لم أفهم مطلقا لماذا نركز بسن الفرجار على المركز ، وندور بقوس واسع يصنع هذا المحيط المنحني . كنت في رعب أن يجذبني المركز كقاع جب بلا قرار إلى عمقه المستحيل . فضلت دائما أن أكون بعيدا عن هذا المركز ، بل بذلت محاولات مستميتة كي أخترق المحيط نفسه بأي طريقة وأهرب من الدائرة اللعينة ، وقد كانت نبيهة وذكية ، تعرف أن المساحة = ط نق2، وهو الأمر الذي لم أفهمه بسهولة ، مع قانون المحيط الذي هو 2 ط نق . وظل سوء الفهم يلازمني وسوء الحظ يتبعها ) ولأن السارد اختار دائرة العمل السياسي  مُؤكداً ذلك الخيار انعتاقه من غبش دوامات قانون ط نق2 ، كانت يدها الرقيقة تشد من أزره تحذره من اندفاعاته ورفضه الدائم لمنطق الدائرة ، السجن (وأن علينا واجباً دائما أن نصنع ثغرة مهما بدت ضئيلة فهي ضرورية لتحرير أرواحنا).
و رغم السنوات الطويلة التي عبرتها تلك العلاقة المليئة بالمشاعر الإنسانية المتباينة وصولاً للمدفن  ظلت مشيرة - حتى في غيابها الفاجع  - حارسه وجرحه المشغول بإزاحة غبش مساحة الدائرة ط نق 2 التي هي في النهاية أسئلة الحياة والوجود والبقاء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : ريم مهنا  ـ  السعودية .

في هذه القصة التي تجمع بين الواقعية وبين قدر من سحر الحياة يخوض بنا سمير الفيل تجربة الفقد..
والمدخل للحكي هو موت الفتاة ، ولكن يالغرابة هذا الكاتب المبدع الذي حول لحظة الفقد إلى حياة عارمة بالحركة واللمسة واللون والرائحة..
لقد ملأ المسافة بين خروج النعش من جامع البحر إلى المقابر بكل ما ينطق بالحياة ، والصخب ، والمرح ، فكأنه يتحدى الموت ، ويدفعه أمامه بمشهدية جميلة ولغة طازجة .. وهو لا يفتعل ذلك بل أنه يتوسل بالصدق الفني ورشاقة العبارة والقدرة المذهلة على استحضار المنمنمات الصغيرة التي تشبه الفسيفساء كفن باهر رائع..
وهذه قدرة لا يملكها إلا كتاب قلائل منحهم الله سر الكتابة السهلة الممتنعة ، ومن هؤلاء سمير الفيل ..
لقد ملأ الكاتب قلبي بالشجن ، ولكنه قدم لي متعة صافية لا يتحصل عليها سوى الكاتب ... أنا حزينة من أجل مشيرة .. ولكنني اعتقد أن أستاذي سمير الفيل قد خلدها بهذه القصة الرائعة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 عبد النور إدريس ـ  المغرب    

أطلعتني على فراشة محنطة وقد كتبت اسمها باللاتينية ، ومجموعة صخور ة صلبة  لها أسماء عجيبة . ضحكت في وجهي وهي تسألني : هل نصير في يوم ما مثل هذه الأشياء .
 لقد اختزل الكاتب حياة كاملة في لحظة موت "مشيرة" حيث توفق السارد في جعل هذا الموت يتحقق فيها اليومي على شكل صورة تحنطت النهاية المبرقشة بالتعب والزرقة، استجمعت عمقها في ذاكرتـ(ـنـ)ـا الجماعية وسيلة ، فعاشت " مشيرة " من خلال هذه الصورة التخيلية الرائعة التي تفوقت على الجسم الواقعي باعتباره يعيش داخل النص حضورا مكثفا على المستوى الرمزي وغيابا رمزيا على المستوى الواقعي في نفس الوقت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : عبدالجواد خفاجى ـ مصر.

مشيرة " نص قصصي يتميز بدقة الوصف ، والتركيز على اللحظة القصصية، وإحكام السرد حول الحدث ، وخلو القصة من الترهلات ، بجانب سلاسة اللغة، والسرد الذي يعتمد على توازى خيطين سرديين أحدهما يتجه نحو الشخصية وحولها ، فيما كان الخيط الثاني باتجاه اللحظة الآنية قادما من ماضي الشخصية باتجاه الحاضر ، موفراً الكثير من التفاصيل ، والتذكارات ، مغذياً اللحظة القصصية الآنية المتجهة نحو المستقبل القريب حيث سيوارَى جثمان مشيرة الثري ، هي لحظة يعنى فيها السارد بتركيز السرد حول مشهد الجنازة .. جنازة مشيرة ، وهو ـ السارد ـ الذي يمشى كغيره في الجنازة باتجاه المقبرة ، وهى لحظة كانت إلى حد كبير واعية بتفاصيل مسيرة الجنازة ، وسط دروب وعرصات وساحات المدينة وأسواقها ، فيما كان الخيط الآخر لا واعياً ، قادما بفعل لذاكرة ( الفلاش باك) من أقصي الماضي باتجاه الحاضر حيث تداعيات الذاكرة واستدعاءاتها لكثير من تفاصيل علاقة السارد بمشيرة (ابنة خالته ) ..لتصب تلك الذكريات في اللحظة الآنية ، أو لتختلط بمشهد الجنازة ، أو تتقاطع معها ، اللحظتان تعتمدان على مشروع زمني سردى مزدوج بالغ الدقة والصرامة ، أحدهما أساسي يركز على اللحظة القصصية والحدث الجوهري ( البنت مشيرة أم ضفيرتين صغيرتين سارحتين على الظهر ماتت اليوم) ،  والآخر لتغذية الحظة الآنية بكثير من التفصيلات الدرامية، وماضي الشخصية ، وماضي العلاقة التي كانت بينها وبين السارد ، إلى أن يلتقي الخيطان تماما في ذروة واحدة أخيرة هي لحظة الدفن.
لا شك أنها قصة توفرت على كثير من عناصر القصة الجيدة، فيما جاءت رؤيتها متسعة لاستيعاب الصراع بين ثنائيات كثيرة تعتمل في الحياة والواقع ، الداخل ، والخارج ، الماضي والحاضر ، الإرادة والقدر ، الممكن والمستحيل ، الموت والحياة.. الحلم أو التمني والمصير .. إلخ .

تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في سبتمبر 12, 2018 تقييم: 5

هناك تعليق واحد:

  1. هذه القصة الجميلة مفمة بخيال بسيط مستلهم تفاصيله من ماض عشناه جميعا، لهذا فهو يتسلل ببساطة الى قلوبنا ويحرك مشاعرنا بقوة نحو تذكارات تخصنا وتثير فينا نفس النشوة التي اظن انها كانت دافعا لكتباتها بمثل هذه اللغة الدافئة والخيال الطازج بحضوره الحي

    ردحذف