Powered By Blogger

قصة "الرأس" - خيري عبد الجواد

الرأس
قصة: خيرى عبد الجواد


والليل قد بلغ منه الثلث أو الثلثان، ولم يكن هناك غيرى فى الشارع، والظلام قد اشتد ساعده فرمانى بأغنية تتحدث عن فوائد الاستحمام، فغنيت ولعلع صوتى فى السماء الدنيا. أما المواصلات فقد انقطعت منذ حين، وكانت هناك عربة آتية من المنحنى المظلم مسرعة. وقفت أمام العربة فاتحا ما بين ساقى فاردا ذراعى. فوقفت لى، مددت رأسى وعنقى عبر النافذة المفتوحة لأواجه السائق.
دون أن أتكلم، ودون أن يتكلم، مد السائق يده إلى رأسى وعنقى، كانت يده تحمل سكينا كبيرة لمع نصلها فى الظلام وجز رأسى وعنقى فى مهارة فائقة. كنت أنظر إليه فى دهشة وكان يضحك ويصفر بفمه. أخذ رأسى وعنقى ووضعهما بجانبه على الكرسى، وكان جسدى خارج العربة يقف منتصبا دون رأس ولا عنق. انفجر سرسوب من الدماء مثل النافورة فأخذ يصدر هذا الصوت:
- تش.. تش.. تش، وكان عنقى أيضا ينزف دما ساخنا. نظرت إليه مستفسرا فأدار محرك العربة وانطلق. شببت برأسى على عنقى لأنظر عبر زجاج النافذة إلى جسدى المنتصب فى الشارع متباعد الساقين مفتوح الذراعين، بلا رأس أو عنق. كان جسدى يتهاوى فى بطء، واستكانت الذراعان والتوت الساقان وتكونت بركة من الدماء الساخنة التى أخذت تفور وتتصاعد منها أبخرة ملأت الهواء، وكان صوت الدماء التى تفور يأتى عبر الهواء فيح فيح.. فيح فيح.
لم يكن العنق قد جف بعد فأخذ ينزف حتى امتلأت العربة بالدماء الفوارة، غمس السائق يده فى الدماء واغترف وشرب، ثم أنه أخذ يمتصها إصبعا إصبعا، ومسح يده فى شعرى فاحمر وأصبح لزجا. مددت لسانى الذى كان قريبا من يد السائق، لعقت يده، كان طعم الدم مالحا فبصقته، ولكن السائق ملأ كوبا أخذ يرتشفه ببطء وتلذذ، وأصبحت أحس بالقرف من منظر الدم المتخثر، وكنا نصعد جبلا، والسائق يشرب حتى تحول لون الجلد إلى حَمار قاتم وفاحت منه رائحة نتنة ودمعت عيناه دما، استلقى برأسه على ظهر المقعد ونظر إلي. كنت أنظر إليه وكانت نظرته تتحول إلى دماء تنزل قطرة قطرة، والصوت يرن:
- تك تاك، تك تاك. حتى هذه اللحظة لم أتحدث معه ولا تحدث معى، امتدت يده إلى عنقى وأخذ يضغط عليه بشده حتى عصرنى، ثم أنه قذفنى من نافذة العربة فأخذت أتدحرج من فوق الجبل والهواء يردد صدى ارتطام رأسى بالصخور:
- بوم بم.. بوم بم، بوم بم، حتى استقرت رأسى فوق الرمال، وكان عنقى لا يزال ينزف دما. فشربت الأرض حتى ارتوت جيدا، ونبتت شجرة أخذت تنمو وتنمو حتى جاء الطائر الكبير الذى أخذ يأكل منها فوقع ميتا. وجاءت الكلاب فأخذت تأكل فى عنقى ورأسى ولم تترك سوى عظام الجمجمة التى لم يستطع أحد الكلاب كسرها. جاء الحيوان المفترس ذو الجثة الضخمة فأكل عظام الجمجمة ولم يبق من رأسى وعنقى سوى بعض الشذرات التى التقطتها ديدان الأرض فى مرح شديد، وكان طابور النمل الفارسى يمر فحمل المتبقى من رأسى حيث قام بتخزينى لعام الرمادة. لم يبق منى شىء إلا شذرة حط الطائر الكبير عليها والتقطها بمنقاره وعَبْر السحاب مررت فانتعشت إلى أن حط الطائر الكبير فى أرض صحراء بالقرب من العين، أخذت أنمو ولم يكن هناك سوى الرمال والعين، جاء بعض الرجال والنساء بالقرب من عين ماء، أراد الطائر أن يشرب فوقعت من منقاره بالقرب من العين، نصبوا الخيام بالقرب منى بعد أن أخذت أتمطى فاردا أذرعى التى تدلت على حافة العين فانتشر الطل، لعب العيال بالقرب منى، وقبل الولد الكبير الفتاة التى نبت لها ثديان صغيران، مدت امرأة يدها إلى أحد أغصانى فقطعته، وضعته فى فمها فانزلق إلى أمعائها، عندما رجعت المرأة إلى خيمتها كانت بطنها قد تكورت، وعمل الرجال منذ الصباح الباكر على اقتلاعى لأن أوراقى جفت ولم أعد أنشر الظل. فى البيت كانت المرأة تلد قولدت ولدا أخذ ينمو ويكبر ويقضى أوقاته عند النبع، كان الولد يحب النبع حبا كبيرا، وكان الولد يحب البنت الجميلة حبا شديدا، وأراد الولد أن يقبل البنت الجميلة عند النبع فابتسمت فى وجهه. كان جسد الولد يحمل رأسى وعنقى.  
__________________

قراءة نقدية بقلم: فكرى عمر
الإبداع عصيٌّ على خط التفسير الواحد؛ لأنه يمنح عطاياه فى كل قراءة جديدة.. هنا فى قصة (الرأس) من مجموعة (حرب أطاليا) للقاص، والروائى "خيرى عبد الجواد" نقف أمام عدة مستويات للقراءة. تستلهم القصة عجائبية القصص الشعبى، والتراثى بهدف ابتكار شكل تعبيرى جديد لفن القصة القصيرة، يستفيد الكاتب فيها من جذور الواقع الخفية، ويتيح للقارئ إدراك العلاقات التى تربط واقعه بماضيه، وتبرز حالة التأثر والعدوان الممتد. يبنى القاص صوره ومشاهده العجيبة بغية الوصول إلى المعنى مفارقًا فكرة الترتيب السببى للواقع الطبيعى. ثمة مشاهد تبدأ فى الظلام، وتنتهى فى النور. وبقراءة أخرى: لا تنتهى هذه المشاهد بانتهاء القصة، فهناك خط ممدود يُجسِّد حالة إعادة الخلق، والتجدد الأبدى. سأقف أمام المشاهد مستغرقا فى الدهشة من هذه التحولات المتوالية التى تبرز العنف اليومى، العنف الذى يمارسه سائق يجز رأس الزبون، ثم يرشف دمه فى تلذذ، بل ويدعو الضحية إلى مشاركته الوليمة البشرية فى مقابل استسلام تام من الضحية، أو إيمانها الباطنى بحالة الاستمرارية فى الوجود. كأنه يطرح سؤالا بصيغة استنكارية: ما الذى نملكه كبشر من أجسادنا؟ ربما لا شىء، وربما كل شىء، فنحن أبناء الأرض مثل الشجر، والطيور، والزواحف، والكائنات المفترسة. إننا صور متقابلة، ومتداخلة معا بشكل لا يدركه سوى من يؤمنون بالحب، فالحب هو ما انتصر فى النهاية. كأننا أمام مسيحٍ عصرى يمنح دمه وجسده لكل الكائنات، فقط ليفرح بلحظات الطيران، والتوالد الأبدى فى وجوه، وأحلام جديدة. 
يشكل العنف اليومى، والإحساس بالافتقاد، وانقطاع التواصل بين البشر بعض سمات الكتابة عند "خيرى عبد الجواد". هذه العناوين الفرعية تتجسد فى هذه القصة، فلا كلام ولا سلام بين المجرم، والضحية، بل والغريب أن الضحية لشدة استسلامها، أو إيمانها، ولكل فرضية منهما ما يبررها، لا تصرخ، أو تطلب النجدة. إنها فقط تستغرق فى رصد المشاهد، والأصوات التى تنتج منها، أو من ارتطامها بالصخور، وكأن الدقة فى رصد علاقة الذات بالكائنات، والأشياء تدلل على إيمان القاص بأننا نتشارك مصيرنا معًا، وأن الانغلاق على الذات خطيئة، وأن الفكرة والحلم لا يتبددان بموت صاحبهما بل يعاودان الوجود والتحقق إلى ما لانهاية.

قصة "الرأس" - خيري عبد الجواد قصة "الرأس" - خيري عبد الجواد تمت مراجعته من قبل مصطفى يونس في يوليو 27, 2018 تقييم: 5

هناك تعليق واحد:

  1. صبحي شحاتة

    من الواضح أن قصة"الرأس" رمزية ذات بناء دائري يبدأ بأغنية وينتهي بولادة جديدة وحب وتمر بتقطيع الجسد وفصل عنقة ورأسه حتي إفنائه بالكاد فلا يبقي منه سوي شذرات هي من تعيده للحياة مرة أخري .. تبدأ القصة في الليل ومنه تأتي عربة وهي هنا تعبيرا عن الحياة بدلالة أن الحياة تمضي تسير تتحرك كأنها عربة تنقلنا من الميلاد إلي الموت أو بوصفها رحلة، إن السائق قائد العربة هو المتحكم في سيرهاوالذي يسمح بركوب من يريد. إن رأس الراوي ينطوي علي دلالةالفكر العاقل المدرك للحياة والراغب في ركوبها والسير بها وفيها إن سائق العربة يمتص الحياة التي يمثلها الدم حتي الثمالة ثم يلقيها فوق الجبل إنه السلطة القائدة للحياة، إن القصة تعبير رمزي.. فالجسد يهضم ويطحن في مفرمة الحياة التي تتحكم بها السلطة وهي هنا سلطة السائق القائد الواحد.. يتجمع علي الرأس المقطوع الطائر مرات والطائر يرمز إلي الحرية والعلو أي إله الحياة في أعلي صورهاأما حيوانات الارض السفلي كالكلاب والوحش المفترس والنمل الخ.. فهي تعتاش علي استهلاك الحياة وليس تجددهاإنها سلطة مقلوبة ووجه آخر للسائق القائد للعربة / الحياة.. هكذا حتي يسقط الراوي/الشذرة من منقارالطائر فيستحيل شجرة تأكل منها امرأة ثم تلدالراوي في صورة جديدة حيث يصير صبيا يحب البنت الجميلةالتي هي الحياة الجديدة.. إنالرأس يرمز إلي الفكر وتحولاته والفكر هو الحياة النامية باستمرار والفكر في القصة يختلط بالموت ويواجهة لكن الموت لا يستطيع القضاء عليه بل ينهض الفكر الحي من الموت ويواصل حياته وحبه.. هنا نلمس صدي لأسطورة إيزيس وأوزوريس وست، ونلمس أيضا اسطورة رأس الحسين في المخيال الشعبي التي ظلت تندفع حتي وصلت إلي مصر .. تعتمد القصة إذن علي الرموز وتحاول أن تكون جماع لرموزناالثقافية والشعبية كلها تقريبا بحيث تكون أشبه باسطورة جامعة تعيد ياستمرار خلق اوزوريس من الموت، وكذلك الحسين حيث رأس الحسين الطائرة هي رمزا للفكرة للحب للحياةالتي تمر من الموت وعلي الرغم منه لتحيا مجددا.. من الاغنية التي تحض علي الاستحمام والاغتسال والتطهر إلي الولادة والحب تبأ تنتهي القصة الاسطورة الرمزية التي تحدثنا عن الخلق الدائم والمستمر للحياة من الموت وعلي الرغم منه.

    ردحذف