Powered By Blogger

قصة "القرد" - بهاء السيد

                                 
القـــــــــــــــرد

  قصة: بهاء السيد 



مدخل

في قريتنا البعيدة..
المرمية تحت التل..
الرجال.. مشغولون بنسوة السياح.. ونسوة السياح ملونات.. ممصوصات كأعواد الذرة الناشفة.. والحريم مشغولة بإغراء السياح لشراء(الجعارين)المسروقة.. والسياح مشغولون بالفرجة على القرد العجوز.. يحدقون فيه مبهورين.. يطوفون حوله أسرابا..يتمسسحون فيه ويمسحونه في قدسية وتطهر.. وهو يربض شامخاkعملاقا..عاريا..فوق القاعدة الأزلية..عجيزته الصلبة، تصد الرياح الشرقية.. تستقبل بحذر أشعة الشمس كل صباح.. نظراته المتعالية، الثاقبة تخترق بطون القبور المنزوعة في قلب الجبل من ناحية الغرب.. توقظ الموتى وتنعشهم .. تحت خصيتيه الماء يتدفق زلالا .. لكن طائر (اللقلق) يبدو حزيناعلى غير العادة... فهو يحط فوق ماء الغدير.. مرة..ثم يحوم حول التمثال مرات.. وغيطان الذرة والقصب والبرسيم والكتان وأشجار الحناء تحاول أن تتشرب كل ما تجود به خصيتا القرد العجوز.. لكن بلا جدوى..
محاولة اندماج 
ولما مالت عليه ..بعفرتة بنت العشرين.. همست بدلال..أرغب أن أعتلي ظهر القرد .
سرقته الدهشة.. ولما أفاق.. رد عليها بضيق: - كان أجدادك يعبدون هذا القرد.
ثم حاد بعيدا عنها.. طاردته وهي تتمسح به كقطة شبقة.
وقالت في حنو:- وأنا أعبدك..
ثم غمزت بنصف عين بُنية.. وغاظه منها عدم اختيارها للمفردات .. وفي أعماقه كان يشعر بالغبطة .. متيقنا بينه وبين نفسه أنها لا تتعمد مطلقا إهانته..
وشبكت كفيها ووضعتهما فوق القلب.. بين نهديها. غمغمت: (إن ثمةعصفورًا في حجم القرد يتسلل تحت الجلد.. جلدي..يوجعني.. لكنه أيضا يدغدغني. .فأرتاح.
سحبها بعيدًا..شرق الغدير بمسافة.. قال بحزم: (إن ثمة عصفورا آخر عجوزا يعلم ابنه الطيران) قضمت شفتها السفلى.. فامتزج الأحمر الفاقع بالأحمر الوردي.. وزامت.." عصفور غبي ..ليتركه يجرب وحده.." لمعت عيناه في حزن .. ولمعت عيناها وهي تصوصو.. تحاكي زقزقة العصفور الأخضر..
ورآها تشد ذيل الفستان الأحمر.. كي تعتلي ظهر القرد الشامخ .. وبكل السحر مدت يدها ليساعدها في صعود القاعدة الصخر.. انحنى وقوس ظهره.. ولما همت ..تعرت فثار لأنه للحظة لمح مسافة ضيقة من الفخذ الأبيض.. فأنزلها من فوق هيكل العنف.. وقد تكرمش وجهه ضاقت عيناه .. واحمرت.. ولما استعادت توازنها ..
قرقرت ضحكتها.. وخبطته فوق الصدر وطارت ..راحت تطوف حول التمثال ضاحكة .. وعندما دنت منه أكثر.. همس بضيق: أنت مجنونة..
همست وهي تحرك لسان العصفور: وأنت ..متخلف..
ولما تعبت قعدت .. وركنت ظهرها بظهر النخلة.. وقعد محطوطا بجوارها ..مُتعبًا حانقًا
فمسحت عرقها .. والمخاط الذي يتسلل من أنفها في كُمَ قميصه.. ثم ساوت شعرها الناري وخبأته تحت (الإيشارب الشيفون) الأحمر.. وكشف الأحمر عن استدارة  وجه البدر.. وراحت الغمازتان في خديها تتراقصان حين كانت لا تنزل عينيها من عينيه.. ودلدلت رجليها في الماء والطين.. وكان يرقبها صامتا وراضيا .. وحزينا. وطرطشت الماءَ الممزوج بالطين ..فتناثر فوق وجهه وثيابه ..ولما أحست أنه ما زال غاضبا وعازفا عنها.. سحبت خصلة من الشعر المخضب بالحناء من تحت (الإيشارب) وفركتها داخل أذنه.. فلم يمنعها ولم يضحك.. ولم يقل لها أبدا..أنه لم يغضب بسبب الطين المتناثر في عينيه ووجهه وثيابه..لكن الذي يوجعه حقا ..أنها ..عفصت وجهها القمري وساقيها ..وثوبها الأحمر.. ثم أشار لها بعينيه نحو الغرباء وقد عرتها عيونهم البجحة.. فطوحت رأسها بقرف.. وجزّت أسنانها وصرخت .. لينشغلوا عنا بقردهم الكُهْنةْ.!
واقتلعت عودا من القصب .. من بطن الأرض بكل العنف .. مدته إليه..وقالت قشره لي ..قشره.. فتمنى ولأول مرة أن يلطمها فوق الفم..لا لعنطزة الأمر العادي.. لكن لأنه كان يدرك خبث المقصد. 
ونهض منتورًا وهو يتحسس شاربه الأبيض والشعر الأبيض فمالت بجسمها نحوه وهي تتشبث بذيل البنطال ..وأكدت له أنها لا تقصد ..وقالت إنها تعرف أن أسنانه تكسر (الزلط)..فصدق.. وحين عاد وقعد أراحت رأسها على كتفه وقالت وهي تحاول أن تغفو.. هل تحبني ..مثلي؟
وأجاب للمرة  الألف:- قلت.. أبيع الأطفال و...الزوجة في سوق الرق.. مقابل ظفر واحد من قدميكِ.. التصقت فيه أكثر .. ونامت بخدها فوق ذراعه وانزاح (الإيشارب الأحمر )..وقالت : قلت ستحملني يوما فوق جناحيك ثم تطير لتريني الدنيا.. فقال بكل الصدق والإصرار ..- سأفعل يوما .. وعليك تحديد الوقت .. قفزت فجأة .. نشوانة .. تطير كطفلة .. وبكل شقوتها راحت تصفع وجه الأسفلت الأسود.. وقد طار منها الشعر الناري، هرول وراءها مشدوها..تا بعها لحظة .. ثم توقف.. وقد بدأ يشعر بالاختناق.. ولما لم تسمع وقعا لخطواته المنتشية.. وتراجعت وجلة.. وبدا على وجهها الذعر.. طوقت رأسه بذراعيها.. وأجلسته بحنان الأم.. فوق الأسفلت.. والتصقت فيه.. وأمالت رأسه فوق الصدر وهي تحيطه ثم راحت ترقب طائر (اللقلق) وقد رجع ثانية ليشرب من ماء الغدير..نشوانا
وهويصوصو
و..يصوصو....

انشطار

وتطاول شبحهما فوق الجدران الخلفية وفي الظلمة عصرت كفه في يديها..همست:-هل ندمْتَ ..؟ قال وهو يحاول أن يوسع من خطواته.. وهي تحت ذراعه.. – الكتاكيت قد تنبت لها أجنحة.. ردت وهي تأكل عينيه..- والزوجة؟
صمت لحظة ثم أجاب :- ستكون مشغولة بتقديم الحَب للكتاكيت، وفي نفس الموعد وكانا قد وصلا للعربة ..هتفت بفرح:- تطلع يا اسطى..؟ قال السائق وهو يهز الرأس ويحرقها بعينيه:- لم يبق إلا راكب واحد.. فسحبته ودلفت للكرسي الخلفي.. ولما تساءلت عيناه.. لماذا..؟ قالت في أذنه: سأنام .
ورآها تلملم رجليها وتتقنفذ عند الحافة وتلفّ زراعيها حول رأسها ثم تميل صوب النافذة تحاول أن تغفو.. وقد وضعت حقيبة يدها بينها وبينه.. لكنها قد قالت للسائق وقد راح يدوس برجله بطن الليل الحالك.
:-عندك فيروز يا أسطى..؟ أدار الرجل مفتاح التشغيل للكاسيت.. وانطلق (الطبلاوي)... يرتل ..فيزيح من الليل بعض الظلمة والأحزان .. مدت يدها .. قرصته .. وهتفت بصوت واه..ناقم .."لا تحاول أن توقظني ..هل تسمع؟" مد الراكب الأخير أنفه بسيجارة .. قال له:-هل تدخن يا حاج..؟ شكره بصوت عال..
وفى سره .. لعن أباه وأمه والساعة التى جمعتهما به.. وأحس بها تخنق ضحكة شيطانية .. ولما ألصق خده..بخد الشباك رأى ظلال الأشجار ..تترى فى الاتجاه المضاد عبر الحقول..وأحس بجسمه يتجمد والبرد يكرمش اطرافه..فمال بنصفه نحوها يتصنت ..وسمع أسنانها تطقطق والمقعد تحته يهتز ..خلع سترته الصوف وغطاها..وفتح الحقيبة الجلدية وأخرج منها منشفة الوجه ولف بها رجليها..وحشر الحقيبة بين رأسها والحافة.. تحسبا لمطبات الليل .. وأراح رأسها ببطء .. مد الراكب الأخير أنفه من عمق الظلمة وفح:- طوبة..خطر على الأطفال..وللمرة الثانية..سمعها تخنق ضحكة..شقية.. رمى رأسه بضيق على حافة المقعد..حاول أن ينام ..ولما أفاق سمعها تقول للراكب الأخير وقد لوى عنقه نحوها..- ده .. مجرد فسحة و....ضغط على قدميها بنعل حذاءه.. فسكتت
وهى تزوم.. وضبطه يحدق فيه في المرآة ويبتسم بجفاء.. فاجتازت السيارة حدود المدينة الكبيرة.. قال للسائق:- كوبري الجامعة من فضلك.. وهبطا..
قالت وهي تطير من فوق الأرض كطفلة..: وعدت وصدقت ..هاهي الدنيا.. ثم راحت تتقافز وتتنطط فتناول يدها في حنو الطائر.. همس جادا من هنا سنبدأ.. وأشار إلى تمثال (نهضة مصر) وكلمها عن (مختار).. و طار بها محلقا وهي تحت جناحه فوق النصب التذكاري للجندي المجهول. ثم ضريح سعد..وقبر عبد الناصر .. وطوف بها حول ميدان عابدين..ومبنى مجلس قيادة الثورة.. وهبط بها فوق جبل المقطم .. وأشار نحو برج القاهرة وكوبري عباس والمعرض الصناعي الدولي .. وغير اتجاه عينيه نحو القلعة ومبنى التليفزيون.. ثم طار بها من جديد..
وهي تحت جناحيه .. حلق فوق مقهى ريش وإيزا فتش وإسترا ومسجد عمر مكرم والمتحف.. ولما نزل بها عند تمثال (طلعت حرب) وراح يحدثها عن صاحبه.. كانت قد انسلت من تحت جناحه وصارت منجذبة نحو مبنى السنما(رآها تتسمر تحت الأفيش الضخم للبطلة العريانة) ولما نظر إليها متعجبا صرخت فيه: انا...تعبت..! قال هو الآخر :- وأنا تعبت..ثم همست برجاء وهي تحدق في الأضواء البراقة :-أحب أن أرى الفيلم.
تحرك وهو يجرجر رجليه نحو الشباك..منصاعا.. فابتاع تذكرتين..ولما مدّ لها يده.. وكان في أول الممر الطويل المظلم .. قالت بصوت واهن متقطع مبحوح ،وهي تغوص في عينيه ..وتتأوه..:-أشعر بالجوع....؟ تراجع صامتا وعبر الميدان الوسيع .. تحرك حثيثا بمحاذاة السياج الحديدي وتوقف عند (الشوّاء) الذي تقع دكانته عند ناصية الشارع.. ولمارجع.. كان يسحب أنفاسه من رجليه وقد تقوس ظهره.. وقف جانب الحائط وهو يسعل بمرارة.. وشعر بالظمأ فجأة يكوي حلقه! ..دلف إلى المقهى الأفرنكي المجاور للسينما كي يشرب، ففوجئ بها في ركن وراء الباب الآخر الموارب..تجلس نشوانة ووجها كله يضحك، وعروقها تفز وتتنطط.. لم تكن وحدها، كان راكب العربة معها .. فرجع مذعورًا قلقا.. مطعونا..لكن لما وقعت عينيها في عينيه أزاح الشعاع النافذ من عينيها البنية 
قلق للحظة
ثم تقدم منها
طوح لها باللفافة
ثم 
مضى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) القرد: هو تمثال الإله تحوت إله العلم والحكمة عند الفراعنة، ومقر عبادته قديما الأشمونين، وهي قرية مجاورة لمحل إقامة الكاتب.. والقصة من مجموعة ثلاتية الوجع سلسلة أصوات أدبية عدد 248 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. 

تعريف بالكاتب 

 محمد بهاء السيد وشهرته بهاء السيد أديب من ملوي. المنيا ج.م.ع صدرله مجموعاته القصصية الثلاث (الذباب لا يلفظ عصافير – مجموعة قصصية – هيئة الكتاب نوفمبر 1992- رحلة الجانب الآخر – مجموعة قصصية – هيئة الكتاب 1994، ثلاثية للوجع – مجموعة قصصية – هيئة قصور الثقافة 1998)، كما لا ننسي مجموعة (السفر في الليل) مجموعة قصصية صدرت من هيئة الكتاب 1970، وهي مجموعة مشتركه مع رفيقي الدرب القاص / الخضري عبد الحميد والقاص / الداخلي طه، كما له رواية مفقودة وهي (بوابة سيسكو) . حيث سمعنا فصولها منه لكنه أعطاها لمراجع لغوي وتوفي في 2001 ولم يعثر عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رؤية نقدية بقلم سيد الوكيل

كان لدي انطباع، أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة من صعيد مصر، ولا سيما في التسعينيات، لم يتجاوزوا يحي الطاهر عبد الله، وكأنما يرغبون في بعثه من جديد. وهو نفس الشعور الذي خالجني وأنا اقرأ السطور الأولى لقصة القرد هذه. ثم سرعان ما فكرت في الاعتذار لبهاء السيد لسوء ظني به. 

صحيح أن قصة القرد تنهض على بنية المفارقة مثل أغلب قصص يحيى الطاهر عبد الله، لكنها لا تستغرق في الغنائية، ولا تعلق لافتات أيديولوجية في خلفية النص. 
قصة القرد ذات طابع مشهدي حيوي وعنيف ومتنوع، وربما نتيجة لذلك، فكل العلامات التي تخدم الفكرة، وتعمق المفارقة، لا تراهن على اللغة التي تجرنا عادة لغنائية بلاغية. الصورة فقط تقدم معطياتها، وتعمق الدلالة الكلية في كل لقطة، وتأتي اللغة في خدمتها، كقوله (وأنزلها من فوق هيكل العنف). وكانت البنت المفعمة بالحيوية قد مارست عنفا على العجوز، عندما عبرت عن حيويتها باعتلاء ظهر القرد العجوز إله الحكمة. هنا تظهر بنية المفارقة على نحو عميق يقارب الفلسفة. رجل كهل يستحلب الشباب من فتاة للتعويض النفسي، وهو لا يدري أنها في كل حركة شقاوة وعفرتة، تصفعه بعنف.
لقد مارست البنت شقاوتها الموجعة على الكهل طوال الوقت، وهي ممارسات قد تعكس سلوكا عفويا بريئا، ولكنها تذكره بحضور جسدي فوار لا يكف عن تذكيره بهزائمه، لهذا فإن النهاية تأتي على نحو يعبر عن الهزيمة، بالانسحاب من الحكاية كلها، وترك الفتاة، للشاب الذي كان يجاورهما في الأتوبيس. الشاب الذي كان يناديه (يا حاج) فهو جدير بهذا الدفق الحيوي المشتعل، لفتاة ذات شعر ناري، رأت خصيتي القرد العجوز، ورغبت أن تعتلي ظهره.
إن نهاية القصة، لا تمثل موقفا احتجاجيا، على نحو ما نجد في كثير من القصص التي تنهض بنيتها على المفارقة، ولا تحمل إدانة لأي من طرفي المفارقة، لهذا يتراجع ظل الخطاب المؤدلج إلى أدنى درجة، فيما يتعمق المعنى الإنساني، عندما ينسحب الكهل يحمل هزيمته أمام الزمن. عندئذ. ويتذكر القرد العجوز عجزه، ويرضى، إله الحكمة بأن يقبع بخصيتيه المترهلتين، ليمنح زائرية لمحة من وميض موغل في الماضي. ويحمل فتاة مفعمة بالخصوبة والحيوية على ظهرة.   قالت الفتاة للكهل: قلتَ ستحملني يوما فوق جناحيك ثم تطير لتريني الدنيا..
 فقال بكل الصدق والإصرار ..- سأفعل يوما .. وعليك تحديد الوقت)

لايقع بهاء السيد في فخ النمط، ويرسم لنا صورة لـ (عجوز متصابي) يبتز فتاة فائرة، ليغازل شهوات قديمة في خصيتيه 

والواقع، أن الكهل كان يعرف هذا منذ البداية 


قصة "القرد" - بهاء السيد قصة "القرد" - بهاء السيد تمت مراجعته من قبل مصطفى يونس في يوليو 27, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: