Powered By Blogger

قصة "رحلة قطار" - هشام السحار


قصة "رحلة قطار" - هشام السحار

انتبهت فجأة على رنات ساعة اليد في معصمي حين نظرت لها لم أصدق.... مرت سبع ساعات منذ أخر مرة نظرت إليها أسألها عن الوقت.. ولا يزال القطار يقطع ظلمات الليل من حوله في ثقة واستقرار دفعاني لأن لا أنظر للوقت طيلة سبع ساعات كاملة... ولكن كيف مر كل هذا الوقت ولم نصل لمحطة النهاية حتى الآن؟
أسندت ظهري لحائط القطار.. فأنا الراكب الوحيد الذي ليس له مقعد .. فحين قفزت إلى عربة القطار الأخيرة وهو يغادر المحطة لم أكن أحمل تذكرة مقعد كما فعل كل هؤلاء الجالسون أمامي في مقاعدهم بينما اكتفيت بالجلوس على حقيبة صغيرة أحملها تضم بعض الأوراق وأشياء أخرى لا قيمة لها، وأسندت ظهرى إلى جدار العربة الخلفي.
انتبهت على رنات ساعة اليد في معصمي..
استرعي انتباهي بلا شك ذلك الهدوء المخيم على انحاء القطار.. لا حديث... لا همسات... لا ضحكات.. حتى بائع المشروبات اختفى.. لا شيء على الإطلاق أكثر من صوت القطار الرتيب، وهو يصطدم بقضبان حديدية ملساء، ويرتفع معها وينخفض، ويهتز، ولكنه يتقدم للأمام بلا توقف.
أجلت نظري في الجالسين.. كانوا نياما.. اختلفت زوايا ميل مقاعدهم بين جالس ومسترخ ونائم. واتجهت رؤوسهم إلى يمين ويسار وإلى أمام وإلى أوضاع لا توصف لكنهم كانوا جميعا مستغرقين في النوم.
تمنيت أن يحدث أي شيء يبدد ذلك الصمت حتى لو يمر بائع المشروبات ذو النظرة اللزجة اللحوحة لعلي أسأله.. اتحدث إليه فقد يبدد ذلك الصمت المخيم على كل ما حولي .. لكنه لا يفعل.. سبع ساعات قطعها القطار حتى الأن ولم يصل إلى وجهته بعد.. وعلى قدر علمي فالمسافة قصيرة بين المحطتين.. قال لي أحدهم مرة أنها تستغرق قرابة الساعتين.. بينما أكد صديق آخر حكيت له عن نيتي في السفر بأنها ستمر كغمضة عين في ذلك القطار الفاخر.. سارعت كعادتي في القاء اللوم على الساعة.. ثم على نفسي لغفلتي، ثم على نومي لفترة.. ثم لم أجد أحدا.. فقنعت بالسكوت.
حاولت أن أستبين شيئا من نافذة القطار القريبة، وهو يقطع طريقة وسط الحقول.. حقيقة لا أرى حقولا.. ولكني أعرف أنها هناك.. وحين نظرت إلى الظلام في الخارج لم أر شيئا.. كان الزجاج يعكس صورة عربة القطار من الداخل.. مقاعد حمراء وأنوار بيضاء.. أناس نائمون.. ووجهي.. أعرفه حين أراه.. كان ينظر إلى من خارج زجاج النافذة.. نظرة غريبة دفعتني لأن أرتد سريعا إلى جلستي الأولى.. نظرت من جديد إلى ساعتي.. الوقت يمر سريعا.. فلقد رأيت العقرب الصغير ينزلق مسرعا على السطح الأملس يلاحقه العقرب الكبير.
رفعت يدي واسندتها إلى ذقني .. اللعنة عليها من ذقن... لقد حلقتها قبل أن أركب بقليل.. وها هي تنمو من جديد تتحداني .. اعتدلت.. ثم قررت الوقوف.. مضيت بين صفوف المقاعد.
كل شيء هادئ .. غطيط النائمين المزعج يشبه صوت طفلة أجبروها على الغناء، ومن خلفها تتصاعد الأنغام اللا متواكبة من آلاف العازفين المختفين في عجلات القطار الذي يشق طريقة للأمام.
وصلت إلى آخر العربة.. فتحت الباب. أغلقته ثانيا.. قررت أن أدخل الحمام .. الباب مغلق.. أنتظرت .. مرت قرابة النصف ساعة.. ولا أحد يخرج .. لابد أن أحدهم قد نام بالداخل.. فتحت باب العربة التالية.. لدهشتي كان الجميع نياما.. نفس الأوضاع المختلفة. نفس العيون المغلقة.. ورائحة النوم تخيم على المكان.. وصلت إلى نهاية العربة ومن خلال بابها دخلت العربة التالية والتي تليها وهكذا.. كان الجميع نياما.. لا يخلو الأمر من عين تفتح متثاقلة لترى ذلك المخلوق الغريب الذي لا يزال سائرا في القطار.. أو من إشارة أصبع مترددة يرتفع تجاهي.. بل أن أحدهم قال شيئا لم افهمه.
واصلت السير حتى القاطرة.. لابد أن أفهم ماذا يجري في هذا المكان.. فتحت باب القاطرة.. كان الحديد يقاومني.. لكني استطعت التغلب عليه، ودخلت، كان الهواء باردا يدخل عبر فتحات النوافذ المتراصة على الجانبين. كان الظلام شديدا.. فلم يكن هناك سوى مصباح صغير معلق فوق مقعد السائق..
اقتربت منه.. لا أرى شيئا.. صرت في مواجهة المقعد.. وهنا أدركت الحقيقة
كان المعقد خاليا.. لم يكن هناك أحد بالقاطرة.. أحسست برغبة عميقة في الصراخ.. أو قد أكون صرخت بالفعل.  ولكن الصوت ضاع وسط الجلبة والضوضاء الصادرة من القطار الذي كان لا يزال يقطع طريقة إلى الإمام ولا يتوقف أبدا.
___________________________
نشرت في جريدة الجزيرة السعودية 1992

_______________________________
المؤلف :
د.هشام السحار طبيب ومقيم في المملكة العربية السعودية، مواليد القاهرة 1955 له اعمال اخرى: الرجل الأسمر الطويل مجموعة قصصية بيكيا مجموعة قصصية وقفة على جدار الزمن مجموعة قصصية الوزير بهلول مسرحية عودة حورس مسرحية حكايات المنسى - مجموعة قصصية معجم ابن السحار - معجم للعامية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة هشام السحار "رحلة قطار"

"قطار التيه يأتي"
هشام  البواردي

تقول القاعدة في القصة أنه قبل النهاية يجب أن يكون الحديد قد انثني ويجب أن يري وهو مثني.
سنبدأ من النهاية، لقد وصل الراكب الذي يفقد اليقين في كل شئ ،لا يعرف الزمن بدقة ،، كم الوقت الذي تستغرقه الرحلة بين المحطتين بدقة، هل القطار متأخر أم لا بدقة، الي قاطرة القطار وهناك رأي مقعد القيادة خاليا، وهو غير متأكد ان كان قد صرخ أم لا؟!.
 وكل ماهو متأكد منه أن القطار يمضي للامام وسيظل يمضي للامام.
اذا كان في  القصة ثمة حدوتة فالحدوتة تقول:
 "ان هناك راكب لم يقطع تذكرة ركب القطار لذا هو الوحيد في القطار الواقف بينما الاخرون جالسون، وبينما هم يغطون في النوم فأن مشغول بتيهه ولا يقينه من الزمن ،لذا انتبه فجاة علي صوت رنات الساعة، واندهش حين عرف أن هناك سبع ساعات كاملة مرت من آخر مرة نظر فيها علي الزمن، لذا استغرب لأنه لم يصل،لكن لعدم ثقته في العالم الخارجي اكتفي بصورة عن العالم التي في دماغه فهو رغم الظلام الذي يكتنف  القطار ورحلته يري الحقول ،يري الحقول التي يعرف انها موجودة هناك"
وحين قرر أن يدخل الحمام، سيجد أن العربات كلها تغط في نوم عميق وثبات ،حتي يصل الي نهاية القطار ويكتشف أن لا أحد يقوده لكنه سيمضي الي الأبد.
ربما تمثل القصة رمزا الي تشتت الانسان وكفره بالعالم الخارجي  ، ويقينه الكامل بالضياع وبمقاومة الحياة له،وبعجزه ،عجزه التام والكامل  الذي يُري بوضوح كما قلت بداية ،في نهاية قصة هشام السحار وهو يقول
"ولكن الصوت ضاع وسط الجلبة والضوضاء الصادرة من القطار الذي كان لا يزال يقطع طريقة إلى الإمام ولا يتوقف أبدا."
لكن من الذي يعرف أكثر، من لديه فلسفة أكثر، هل الراكب الذي لم يقطع تذكرة واكتشف بدافع القلق الداخلي خلو مقعد القيادة من السائق،أم هؤلاء الركاب الذين يغطون في النوم !ولأن الكاتب لم يدر في خلده أنه من المحتمل أن يكون الركاب يغطون في النوم لأنهم يعرفون قبله أمر القاطرة وسائقها الغير موجود
نقص وميض النور الذي يجب أن تبهر أعيننا به القصة.لو أنه ذكر ذلك في النهاية 
لأصبح  بطله هو الواقف الوحيد والتائه الوحيد  والمستيقظ الوحيد ،والمغفل الوحيد، الوحيد هذا هو البطل الذي يجب أن تركز عليه القصة، وقد وجده هشام السحار فعلا ، لكنه لم ينيره كم ينبغي.



قصة "رحلة قطار" - هشام السحار قصة "رحلة قطار" - هشام السحار تمت مراجعته من قبل مصطفى يونس في أغسطس 13, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: