Powered By Blogger

قصة "الضوء الآخر" - نعمات البحيري



الضوء الآخر
قصة : نعمات البحيري





هكذا يوحي ليل المدينة, وعشرات العمارات واقفة مثل أشباح أسمنتية, تترقب لحظة الانقضاض, حتى وهي مغمضة العيون. والعيون مغمضة بشيش مترب. كل ذلك وغيره يجعلني أفرط في تفادي مواجهة حقيقة لاذعة المرارة, أنني أسكن وحدي في الطرف الأقصى من الدنيا, فعندما تحتقن السماء بسحب داكنة, وتغرق المدينة في صمت مؤسٍ, أشعر وكأن شيئا يسلبني الحياة, وإحساس جميل بالبهجة, ذلك الذي صرت أحسه منذ صار لي بيت وجدران في الحياة. صرت أسمع أشباحا ليلية, تجادلني بصمت وحشي, وتحاصرني بأسنة الأسئلة. (أي بيت, وأي جدران, وأي حياة في مدينة الدمار والصمت هذه?). لكنني مع الأيام تمرست على تجاهل رائحة بقايا البناء والظلمة والصمت الوحشي وظمأ المدينة, فرحت أغلق النوافذ والشرفات, لأرى تخوم الدنيا, تبدأ من جدران شقتي, التي فرشتها - بعد الانكسارات - بحصير وسجاجيد القصاصات الملونة وجموح الرغبة في الحياة وما تبقى من أحلام. في النهار بدا الفرار طبيعيا إلى العمل.
أتجاوز فيالق الكلاب وفصائل الصقور وكتائب الذئاب وتشكيلات الغربان والحدآن وهي تتربص بالحمام الذي أقام غيّته في الطوابق العليا من العمارات. وفي طريق العودة تبدو المدينة مثل عشة دجاج, تغلق أبوابها, ولا من خروج إلا في نهار اليوم التالي. حتى إذا جاء الليل راح يحرك في الفم طعما مرا ورائحة العزلة والبعد والتنائي, مع خرفشة ورقة تتطاير في الشارع, تحملها الريح من هنا إلى هناك. ذات مساء وأنا أهم كعادتي بغلق النوافذ قبل أن يزحف الليل, ملتهما ما تبقى من نهار في الروح والذاكرة, رأيت بكلتا عيني المتشوقتين للألفة والبشر نافذة مضاءة في الطرف الأقصى من المدينة. وفي سرعة فتحت نافذتي لآخرها وأسرعت أضيء المصباح, فقد بدا في البعد النائي بشر, شخص, كائن ما يقف في النافذة. لم يكن من السهل تحديد نوعه, ولم يكن هذا مهما على الإطلاق. بعد قليل أطفأ مصباحه وأضاءه, ففعلت مثله بلهفة وشوق. ثم أطفأ مصباحه مرة ثانية وأضاءه, وللمرة الثانية أفعل. بعد قليل بدا أن ذلك لم يكن إلا وسيلة للتعارف. وفي برودة الليل والنافذة مازالت مفتوحة لآخرها. لفحني الهواء, ولكنني شعرت بأن الدم الذي يتدفق في عروقي, دافئ يخلو تماما من الشوائب.
في تلك الليلة نمت نوماً هادئاً وأنا مطمئنة إلى أن في المدينة بشراً. وفي النهار تجولت في خلاء المدينة, غير آبهة بفيالق الكلاب, وفصائل الصقور وكتائب الذئاب وتشكيلات الغربان والحدآن, تلك التي استباحت خلاء المدينة من البشر, حيث النوافذ مازالت مغلقة على الغبار والصمت, وجميع العمارات متشابهة كالعادة. في ذلك اليوم لم أذهب إلى العمل, احتفالا بذكرى أول يوم أرى فيه بشرا في المدينة.
بعدها رحت أحفظ عن ظهر قلب مفردات لغة جديدة, فغلق النافذة يعني الخروج من البيت, وترك ضلفة شيش واحدة يعني الرغبة في تناول قسط من الراحة, وإضاءة المصباح ثم إطفاؤه, يعني الرغبة في تبادل الحوار.. أي حوار. مع الوقت رحت أعيش تفاصيل المدينة دون كآبة, فقد صار هناك في الطرف الآخر ضوء آخر. وذات ليلة وأنا أأتنس بالضوء الآخر تمنيت لو أخرج إلى الشارع غير آبهة بفيالق الكلاب وفصائل الذئاب, لأرى من بعيد الضوءين مثل عينين لامعتين لامرأة زنجية جميلة, غير أن السير ليلا في المدينة وسط مزيج بالغ القسوة من الريح والبرد, ونباح الكلاب وعواء الذئاب كان يكثف معنى مخيفاً للوحدة. في الصباح لم تعد المدينة خالية على الإطلاق.
وحين ذهبت إلى العمل بعد تجاوز بضعة كيلومترات, سيرا على القدمين, حكيت لزميلاتي عن سحر المدينة والضوء الآخر, كن يسخرن مني, ورحن يلقبنني بامرأة غريبة, تسكن مدينة للأشباح والخرافة, وكنت أسخر من وجوههن الشاحبة, وأجسادهن المترهلة بالكسل والبلادة. في طريق العودة حيث مساحات من الصحراء مازالت, ومعسكرات الجيش ونباتات الصبار الوحشي, وحيث لا رفقة على الجانب الآخر, عدا السيارات المتعجلة عبر الطريق الإسفلتي السريع. وحين أصل البيت تبدو النافذة أجمل رفيق تمتد إليه يدي. في الليل أترك النوافذ مفتوحة, وأتحرك في الشقة دون خوف من ذلك الشعور الغريب بأن ضوء نافذتي هو الوحيد وسط الظلمة الحالكة للمدينة مثل هدف واضح, فأمضي إلى عملي المنزلي في حماس ونشاط. وفي سرعة غريبة أفرغ من تنظيف البيت وطبخ الطعام وغسل الثياب وتجفيفها وتطبيقها ورصها مثل الأحلام, وري نباتات الظل والشمس التي أأتنس بها, مثل كائنات حية تطلب الهواء والري, وقدراً من الضوء والكلام.
وبعد التعب أكافئ نفسي بالنظر مرة أو مرتين وربما أكثر إلى الضوء الآخر, فتبدو النافذة المضاءة هناك مثل طاقة نور ودفء وبهجة, ومع الأيام صار بيننا ميثاق غير مكتوب, فإذا ما بدا الضوء الآخر وأطفئ مرة ومرات, فهذا يعني الرغبة في مزيد من التعارف, وإذا ما أسدلت الستائر, غير حاجبة للضوء, فهذا يعني أن الطرف الآخر مشغول بشيء ما. وإذا ما...
صارت بيننا لغة ومساحة من الفرح. بعدها صرنا نستخدم الألوان وحركة السحب وضوء القمر وأشعة الشمس والمرايا العاكسة وأزيز الطائرات التي تستخدم المدينة معبراً دائماً لها, ومن الأرض صرنا نستخدم نباح الكلاب وعواء الذئاب وكلاكسات السيارات العابرة, لأن العصافير لم تكن قد عرفت المدينة بعد.


تعريف بالكاتبة
إعداد السيد حنفي






نعمات محمد مرسي البحيري (1953 - 2008) أديبة وروائية وقاصة مصرية من جيل الثمانينات في كتابة القصة القصيرة والرواية.
ولدت بالقاهرة بحي العباسية البحرية في 16/6/1953 ثم عادت مع أمها لتعيش طفولتها المبكرة في بيت جدها في تل بني تميم بشبين القناطر قليوبية. تخرجت في كلية التجارة عام 1976 جامعة عين شمس شعبة محاسبة. توفيت يوم الجمعة 17 أكتوبر 2008م بعد رحلة معناة من مرض السرطان حاربت فيها بجسارة.[1]
تبدو الكتابة عند نعمات البحيرى بهجة مدفوعة الثمن من الوحدة والوحشة وتأجيل الأحلام. هي كلمة تتبادلها مع الناس حتى تظل معهم مثل خيول جامحة ترفض الانسياق لطرق ممهدة شكلا لكنها وعرة مسدودة. الكتابة هي رئة أخرى لهواء نظيف، هي خط الدفاع الأخير في مقاومة الموات والانزواء والبأس والإحباط. هي صرخات من القلب الموجوع بسياط الرغبة في تغيير وجه وروح وعقل العالم عبر تجديد الأحلام وكسر القيود وتبديد الأوهام.

كتبت عن تجربتها أنها تذكرت أن رحلة حياتها ككاتبة لا تدعمها أية مؤسسة اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية لم تختلف كثيرا عن نفس الرحلة، والبشر والمواقف والأحداث على المستوى العام والخاص مثل فيروسات أو بكتريا، مثل أمراض..أمراض واضحة وأخرى كامنة، أمراض حميدة وأخرى خبيثة، شقاء يسلمك إلى شقاء، وصخرة سيزيف التي تثقل كاهلك لتظل تشقى لترفعها إلى أعلى وما أن تشعر بأنك حقا أدركت حافة الجبل تسقط الصخرة، لتنزل وتبدأ من جديد، وأن ما حدث لها هو جزء من المؤامرة الكبرى على عقول وأجساد البشر في مجتمعات العالم، جزء مما يحدث في الدول الفقيرة، ليكون نصيب الفرد فادح الضآلة..

صدر لها..المجموعات القصصية التالية.

1. "نصف امرأة" على نفقتها الخاصة عن دار الحرية عام 1984.
2. " العاشقون" مجموعة قصصية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1989..عن سلسلة إشراقات أدبية.....
3. "ارتحالات اللؤلؤ" عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة عام 1996..سلسلة أصوات أدبية...ثم صدرت في مكتبة الأسرة..
4. المجموعة القصصية "ضلع أعوج" عن الهيئة المصرية للكتاب عام 1997 في مختارات فصول ثم صدرت عن مكتبة الأسرة عام 2003
5. ومن الروايات صدر لها عن دار الهلال رواية "أشجار قليلة عند المنحنى" في ديسمبر 2000..
6. المجموعة القصصية "شاي القمر"عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2005 مكتبة الأسرة...
7. صدر لها عن المجلس الأعلى للثقافة في إبداعات التفرغ "حكايات المرأة الوحيدة" عام 2005...
8. وصدر لها أيضا: يوميات امرأة مشعة ، وهي رواية سير ذاتية، تتناول تجربتها المؤلمة مع مرض السرطان الذي أودى بحياتها.
 وللأطفال صدر لنعمات البحيري
1. "النار الطيبة" عن الهيئة المصرية للكتاب عام 1988..
2. و"الفتفوتة تغزو السماء" سيناريو وحوار عن سلسلة قطر الندى عن هيئة قصور الثقافة..
3. وعن دار المعارف صدر للكاتبة وصية الأزهار وبالونة سحر ورسومات نيرمين..
4. وعن الهيئة المصرية للكتاب "رحلة الأصدقاء الثلاثة"
5. نشرت قصص وسيناريوهات الأطفال متفرقة بدوريات مصرية وعربية مثل علاء الدين وقطر الندى والعربي الصغير وماجد...
6. شرت قصصها ومقالاتها في أغلب المجلات والجرائد المصرية والعربية مثل الأهرام والحياة والشرق الأوسط والأخبار وأخبار الأدب والجمهورية والمساء ومجلة العربي الكويتي وأقلام العراقية ودبي الثقافية والصدى وكل الأسرة وحواء والهلال وغيرها....
ترجم لها العديد من القصص للإنجليزية وللفرنسية وللإيطالية وللكردية
من أبرز أعمالها رواية : أشجار قليلة عند المنحنى


قال عنها الناقد إبراهيم فتحي
برعت نعمات البحيري في تصوير الواقع الديكتاتوري في روايتها" أشجار قليلة عند المنحنى التي تمس كل الجروح وتتحدث عن صحراء الروح بكل أشكالها وتكتب بطريقة حية جديدة محاولة تصوير الشخصية الإنسانية ليس في مصر فقط بل وفي العالم أيضا. فهذه رواية لا يمكن ان يكتبها رجل لأنها تتحدث عن القهر المزدوج الواقع على الرجل والمرأة معا، وهى تبدع في تصوير هذا القهر فهى رواية نسائية بالمعنى الجديد للتسمية تتحدث عن الجسد وعلاقة الحب ولكن علاقة المرأة بجسدها هي علاقة بالعالم وبالقهر الإنساني وليس جسدا بيولوجيا فهو جسد اجتماعي حضاري من خلال لغة تصويرية جميلة.

قال عنها الناقد الكبير محمود عبد الوهاب..
في روايتها أشجار قليلة عند المنحنى صورت مشاهد عبر الكثير من التفاصيل التي تجسد للقارئ معالم المكان، معالم اللون والرائحة والصوت والملمس ومساحات النور والظلال والظلام، معالم تسربت إليها المشاعر المختلفة عبر ساعات اليقظة وآليات الحلم وتحول مساحات الرماد إلى جدارية تلخص بؤس مجتمع ينوء كاهله باستبداد السلطة الحاكمة..

وكتب عنها الناقد الفلسطيني فيصل دراج
في روايتها "أشجار قليلة عند المنحنى", تتحدث نعمات البحيري عن قمع متعدّد الطبقات, يلفّ البشر جميعاً ويتراءى شفافاً في مآل "المرأة", التي يسقط عليها عنف الذكورة وعنف متوارث له شكل البداهة. ربما يكون عمل نعمات البحيري من الروايات العربية القليلة, التي نفذت إلى جوهر النظام التسلّطي, حيث المتسلّط الكلّي, الذي تنوب عنه صوره الكثيرة, يلتهم كل ما خارجه, موزّعاً المجتمع إلى فئتين: فئة أولى تحاكيه وتقلّده, كما لو كانت صورة من صوره, وفئة ترفض المحاكاة وتفترسها الصور وتنتهي إلى الجحيم.

وفى أطروحته النقدية "كتابة الحرية والتناغم" كتب الدكتور مجدي توفيق.. قصص نعمات البحيري تمتاز بالتدفق السردي البسيط الذي حررته الساردة من تقاليد القص القديمة وحررته كذلك من الاقتران برسالة واضحة محددة تنتظم حولها الأحداث ولكنه وفي الوقت نفسه يظل يحمل إمكانية تأويلية مهمة تضرب به في المستوى التحتى للتأويل، في علاقة الراوية بالعالم حولها، موقفها من الجماعة، جروحها الذاتية وعيها بالوضع السياسى القائم وهى علاقة تتفتح دوما على موقف إنسانى متكرر، تؤسس فيه الذات بهجتها وتآلفها في عالمها المحدود ولا تسمح للعالم الواسع حولا أن يضر بعالمها الخاص وأن يفسد بهجته التخيلية..

كتب عنها د. مصطفى الضبع
كانت المجموعة القصصية "نصف امرأة" التي وضعتها نعمات البحيرى أمامنا عام 1984، ظننا حينها أنها ما قدمتها سوى لتشير إلى نساء مشوهات، ولما لم نفهم الرسالة التي كان يكفى خمس سنوات لاستيعابها فكان " العاشقون" (1989) كاشفين وجها آخر للقضية، ومحاولين على مدى سبع سنوات أن يصححوا كثيرا من مفاهيم العالم، ثم انتهى الأمر بإغرائنا بـ "ارتحالات اللؤلؤ" 1996، ولكن الإغراء لم يكن كافيا لعالم أشرف على خسارة وعيه فكانت صرخة " ضلع أعوج " محاولة أن تهمس في أذهاننا بسؤالها الحاسم : من المسئول عن اعوجاج العالم، ومن يتحمل مسئولية التقويم ؟ ولما كان على الكاتبة أن توسع من دائرة النداء متجاوزة قضايا يمكن أن تحيل إلى المحلية، ولأن مقدرات عجزنا ألقت بنا في العراء متدثرين بالهجير فقد سعت أشجان إلى أن تكشف عن رمزية أشجارها القليلة عند المنحى الخطر، هاهنا وصلنا معها لدرجة من الوعى سمحت لنا أن نجلس مع شخصياتها متذوقين " شاى القمر" الذي استحقته موهبتها، وأصبحنا جديرين به وقد امتلكنا قدرا من وعيها القادر على الإنجاز والكشف، هكذا تتحرك نعمات البحيرى صانعة ثوابتها الراسخة عبر إنتاج نص متميز يليق بموهبتها ،و منجزة علاماتها الخاصة، ومؤثرة في كل من يعرف الطريق إلى روحها الأكثر جمالا.

قال عنها القاص والروائي سيد الوكيل

لفتت نعمات البحيرى الانتباه بطاقة مدهشة من السرد الشعرى المفعم بروح أنثوية جديدة بتفهم عميق للواقع، ودرجة مدهشة من صفاء اللغة، وألق الروح الأنثوية الخلاقة. الكتابة عندها بديلً عن الموت، عندما جعلت من سيرتها الذاتية أفقاً للسرد...نعمات لديها روح نضالية صلبة، تكتب وهى على أسرة المرض، وبين أروقة المستشفيات، وتحت مشارط الجراحين، وتهدى لنفسها مجموعهتا الأخيرة (شاي القمر) لتنفض عن نفسها غبار الأيام والمرض. وشاي القمر.. مجموعة جديرة بالقراءة، لأن لا شيء يعوض المتعة التي يجدها القارئ في لغتها الشعرية الجميلة، وعالمها الفضفاض، وهى تتكلم أكثر مما تكتب، وتبوح أ كثر مما تؤلف، عن الحياة الصعبة، والأيام، والنساء اللاتى لا يعدمن سبيلا ً للعيش، ويتحايلن على الحياة، ليعشنها بألف وجه وألف ذراع مادامت لهن أرواح حية محتشدة بالحياة وكلهن يشبهن نعمات البحيري، لا لشيء سوى لأنها عمدتهن بروحها، فتراهن نساء حقيقيات، منكسرات أحيانا ،وشرسات في أحيان أخرى..


·      ·       ويكبيديا ttps://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF_%D8%AD%D9%86%D9%81%D9%8A



قصة "الضوء الآخر" - نعمات البحيري قصة "الضوء الآخر" - نعمات البحيري تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في أغسطس 12, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: