Powered By Blogger

قصة "هذه اللحظة" -محمد المخزنجي


هذه اللحظة
قصة: محمد المخزنجي

...
  انقطع التيار، فجأة، وأنا في الشارع.
  سادت الظلمة، وأحسست أنني-على غير انتظار- أنبعث في هذا الليل.
  بدا العالم حولي كأنما ولد من جديد في هذه اللحظة. بدا طازجا وأليفا خلال صفاء الظلمة، حتى أن هواء الليل البارد قد استحال نسيما يرطب جبهتي، ويملأ صدري بالانتعاش.
  شعرت على نحو مفاجئ أنني أفتقد الحياة، أفتقد الحياة حقا منذ أمد بعيد. وغشاني اليقين أنني كنت أحيا سنيني الأخيرة ميتا على نحو ما.
  شعرت بحاجة هائلة للبكاء، المحرق، وودت لو أجري صارخا ما أستطيع، دون أن يتعرف عليّ أحد في هذه الظلمة.
  لكنني اكتشفت المدى اللانهائي من الراحة، في الغناء.
  راح صوتي يتعثر، حتى سلست "الدندنات"، ثم انبثقت في فضاء الروح مقاطع الأغنيات الحلوة، البسيطة، البعيدة، التي ظننتها ماتت في نفسي من قديم.
  أخذ أدائي يُشجيني كلما جلوت صوتي بالغناء. وكنت أتمادى فأشعر كأني أفلت من مراقبة ما، كأني أُعتق من شيء يكبلني، وأنطلق خفيفا خفيفا في رهافة الظلمة، وبراحها.
  انتبهت إلى نفسي وقد بلغ شدوي حد ارتفاع الصوت، فسكت متلفتا أتحسب استغراب الناس الماضين -كأشباح- في الظلمة حولي.
  لكن هنيهة خجلي تحولت إلى دهشة عندما أرهفت السمع، واقفا في ظلمة الشارع الكبير.
  سمعتُ ما يُشبه همهمات خافتة، ثم تبيَّنتُ النَّغم في تداخل الأصوات، وكأن أفراد فرقة موسيقية –مُختفية في مكان ما- يضبطون آلاتهم قُبيل ابتداء العزف.
  رحتُ أُميِّز اختلاف الأصوات والأغاني كلما مرَّتْ بي أشباح الناس في الظلمة: كلُ شبح بصوت، وكل صوت بأغنية، وكل الأغاني كانت مُفعمة بالشجو والشجن.
  عدتُ أواصل سيري والغناء، وكان صوتي يرتعش، وتروغ الأغاني، كلما أوجستُ عودة التيار بغتة.
***
"محمد المخزنجي"
من مجموعة "رشق السكين".
مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984.
محمد المخزنجي.. الساحر الشاعر

اختيار القصة والرؤية النقدية/ حسام المقدم

بالتأكيد ليس أمرا عاديا أن يقول "يوسف إدريس" عن "محمد المخزنجي"، الكاتب الشاب في ذلك الوقت: "كل الكُتّاب في كَفّة والمخزنجي في كَفّة"، بعد ذلك سَيُتبِع قوله بالمزيد عن حساسية المخزنجي الهائلة. بمرور الأيام سيتضح للجميع معنى الحساسية النادرة التي قصدها المُعلّم الكبير "يوسف إدريس"، وستزدهي صورة "المخزنجي".. ذلك الإنسان جَيَّاش اللغة والمشاعر، بامتداد مشواره الفني الإبداعي، الذي أنجز فيه حتى الآن عَشر كُتب قصصية متفردة في القصّ المنفتح على آفاق سردية عابرة لكل الحدود، فضلا عن كتب أخرى ذهبت للسرد في حدائق العالم، مثل كتابه الفاتن "لحظات غرق جزيرة الحوت" الذي صنَّفَه بنفسه على أنه "رواية حقائق قصصيّة"، يلتقط فيه بشفافية إنسانية بعض ما جرى في الاتحاد السوفيتي، في أوكرانيا تحديدا، عام 1986 ساعة الكارثة الأعظم بانفجار المفاعل النووي تشيرنوبل، ومجموعته الفارقة "أوتار الماء" التي غامر فيها مُرتَحلا إلى الثقافة العلمية، ومُحتفظا في الوقت نفسه بحِسّه الإنساني المعادل والموازي لكل العلوم. منذ البدء وهو يُصرّ على تسجيل الوِجهَة التي يذهب إليها سرده: "الآتي" قصص قصيرة جدا، "رشق السكين" فصول قصصية، "سَفَر" متتالية قصصية، "البستان" كتاب قصصي، "البحث عن حيوان رمزي جديد للبلاد" تكريسة.. وها هو يكتب بنفسه كلمات تعبيرية كاشفة عمّا يدور في أعماقه الفوّارة، ويُسجلها على الغلاف الخلفي لمجموعته الثالثة "الموت يضحك" 1988: "ما أُحب الإشارة إليه، لو كان ذلك واردا، هو أن هذه النوعية من القصّ ليست مرحلة من مراحل تطوري في الكتابة باتجاه القصة القصيرة جدا، أو القصة القصيدة أو الأقصوصة الموجزة، التي اشتُهرِتُ بها واشتُهِرتْ بي، إلى حد ما، ولكن هذه القصص الأميل إلى الطول هي طبقة من طبقات الصوت القصصي الذي لا ينبغي أن يكون أُحادي النبرة..".
  قدم المخزنجي كتابه "جنوبا وشرقا"، كنماذج رفيعة لتحقيقات أدبية صحفية مُصورَة، جالت وصالت في جغرافيا الأرض وجغرافيا النفس، عبر استطلاعات مجلة "العربي" الكويتية التي عمل بها مُحررا علميا لعدة سنوات. وفي يناير 2018 صدر له ثلاثة كتب دفعة واحدة عن دار الشروق بعد توقف سبع سنوات عن النشر وليس الكتابة. كتابان سرديان هما: "بيانو فاطمة" نوفيلا وتكريسة، و"صياد النسيم" قصص.. أما كتابه "مع الدكتور محمد غنيم.. السعادة في مكان آخر" فيُمثِّل احتفاء إنسانيا بقيمة إنسانية وطِبيّة كبيرة هي الدكتور محمد غنيم.    
  لا تزال "المنصورة" التي وُلد بها المخزنجي عام  1949عائشة في وجدانه وكتابته، وحتى الآن، رغم الإقامة بالقاهرة، يحضر منزل العائلة الحميم هناك في كثير من النصوص والقصص، وتُطِل عبر الذكرى الحيَّة أيام الدراسة في كلية الطب، وأيام المِحن المتوالية والاعتقالات المُتسلسلة على خلفية اعتقاد سياسي مزعوم. لكن، وبعد كل ذلك العمر في الكتابة والتجريب، تبقى القصة، بكل سُبُلِها، هي عشقه الخاص والأثيرة لديه، لذلك لا نتعجب، كما قال الناقد الكبير "فاروق عبدالقادر" حين نراها، أي القصة، قد أهدته أشهى ثمارها.    
***
هذه القصة.. "هذه اللحظة":
  شاعرية "المخزنجي" الإنسانية تتهادى نسائمها عبر سطور هذه القصة العذبة قليلة الكلمات. وماذا تكون الشاعرية غير الإحساس بالأشياء والفناء في اللحظة؟؟ هنا ذات ترى الصفاء وتعيشه في الظُّلمة الفُجائيّة، وتنبعث من عُمق الحياة البليدة، إلى لحظة شرارة تُلامس الأسلاك العارية للداخل العاطفي المشتعل دوما. ذات تلتقي مع الجِذر الإنساني فيكَ وفيّ، ذلك الجذر المُحرِّض على تأسيس عالم فني خاص مواز، حتى لو كان في لحظة يتيمة لن تدوم طويلا. هذه اللحظة تمسَّكتْ بسحرها هنا على الأرض، وفي نفس الشوارع التي نمشي فيها.. لم تُغادر لكوكب بديل، أو مدينة فاضلة في فانتازيا مصنوعة، إنما كانت من لحمنا ودمنا، لذلك تسربتْ وامتدتْ وأصابتْ مَنْ حولها بعدوى الفن، وعدوى الحياة في صميمها وعلى حقيقتها.
***

قصة "هذه اللحظة" -محمد المخزنجي قصة "هذه اللحظة" -محمد المخزنجي تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في أغسطس 09, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: