Powered By Blogger


فكري داود
قصة
الحـــاجز البشــــري




عندما قابلني لمحت دموعاً في عينيه، وكان الهُزال بادٍ عليه.. منذ كنا زميلين في مدرسة القرية لم تقع عيني عليه.
كان أملأنا بدناً وكان أكثرنا حفظاً لأجزاء القرآن . أتم تعليمه المتوسط ، عينوا كل زملائه ما عدا هو..، امتهن الكثير من الأعمال من أول (نفر) في مشتل الأرز، وخولي في مكافحة دودة القطن، وحتى حمَال للتبن والدريس عند الغير.. حتى يحصل على قوت يومه ودواء لأمه المكفوفة..
طرق كل الأبواب دون جدوى..
نصحته بالذهاب إلى (الكبير) فهو الوحيد القادر على إنصافه بكلمة منه..
 أخبرني أن الأمر لم يفته، حيث حاول مرة، ومرات.. كانت هناك صفوف طويلة من المكاتب والرجال، الذين يحققون معه، يسألونه عشرات الأسئلة.. والغريب أن أسئلتهم كانت عادة حول أشياء كثيرة لا علاقة لها بشكواه.. فبعد الاسم والسن والعنوان..
يسألونه رأيه في الناس والنظام والغفير والمدير وشيخ البلد.. و.. و.. وفي العادة لا يتمكن من الإجابة على أيَّ من ذلك.. فالسيد الذي يسأل يتطوع أيضاً بالإجابة، حتى إذا انتهى تدوينه لكل شيء في صحيفة أمامه، رفع رأسه قائلاً:
ـ وقع هنا يا محترم مشيراً إلى ذيل الصفحة ..
وعندما يتم التوقيع تند عنه تنهيدة طويلة بطول السأم ، ومن بين شفتيه تخرج كلمة واحدة ـ تماااام ـ ثم تنغلق أذناه بعدها..
وثانية تعود به قدماه واهنة منهك الجسد، لا يجد ملجأ ولا ملاذاً إلاَّ كلمات أمه تذكره ـ دوماً ـ بفضل الصبر وعظيم أجر الصابرين، وأناملها الرقيقة تجفف دمعة منسابة على الوجه الضامر، لا تفارق لسانها دعوات الفتوح وجبر الخاطر، تتحسس طريقها إلى باب البيت الطيني الواطئ، ترد الباب وتعو لتتمتم: الباب المردود يمنع القضاء المستعجل.. هييه كفايا علينا حسَّك في الدنيا يا ابني..
وفي بعض المرات كان يعود بعد ما يُحمَّل بوعود وردية بتوصيل شكواه، وبأن الأمر يسير ولا يستحق أن يقابل الرجل من أجله..
ومرات أخرى يُصفع أعلاه، وتُركل مؤخرته، ويُحمل كجثة إلى عرض الشارع حيث يُقذف به إذا بدت على ملامحه أية بادرة مناقشة أو احتجاج..
قلت له : الرجل يتجول كثيراً في زيارات إلى المدن، فلماذا لا تذهب وتعرض المشكلة عليه مباشرة؟؟
راقته الفكرة..
ذهب كثيراً، ولكن حشداً من الرجال وآلاف الأيادي كانت تدفعه إلى الخلف، وتصنع سياجاًً قوياً حول عربة الرجل الذي يوزع تحياته على الناس، وهم يردون التحية من بعيد .. والويل كل الويل لمن تسول له نفسه أن يقترب أو يحاول الوصول إليه..
فقط شخص يلملم أوراقاً، وشكاوى من المجتمعين، يرى البعض كأنه يحتفظ بها لنفسه!!
ذات مرَّة، اندفع متردداً أو محاولاً أن يخترق الحاجز، ولن أُبه بعيداً ككرة بعد ما نال الضرب من بدنه كما لم ينل من بدن نجس داخل مدينة الطاهرين..
إلا أنه كان على وشك الوصول إلى العربة..
ذهب وقد أضمر شيئاً وليكن ما يكون..
ها هو الركب يقترب، والحاجز البشري كما هو، والناس بين محُيَّ ومستغيث وطالب عون..
ورأى لأول مرة أن بعض العربات من ذوات الصناديق العالية، كانت تسير أمام وخلف العربة المنشودة، وعلى حواف تلك الصناديق من الداخل انتشرت أعداد أخرى من الرجال الأشداء، يرتدون زياً موحداً له ألوان تشبه كثيراً جلد النمر، تحمي رؤوسهم أغطية معدنية، وفي أيديهم بنادق، وبدا له أن هؤلاء أفضل حالاً من رفاقهم المترجلين، إلاَّ أنهم ـ مع ذلك ـ ليسوا شاغله الأكبر ، كأولئك الذين يصنعون الحاجز البشري الأرضي..
انحشر جسده نحيلاً وسط الزحام، وبكل ما أوتى من قوة اندفع مخترقاً الحاجز..
كانت الدفعة قوية.. سقط متكوماً فوق الأسفلت أمام العربة مباشرة.. فصدمته قبل أن تتوقف..
جيش من الرجال يتجه نحوه يكاد أن يفتك به..
أوقفتهم إشارة (الكبير)، تركته أيديهم على مضض..
رُفع أمره إليه..
عولج الجسد.. ولشكواه تفتحت الآذان مصغية..
وعاد بذاكرته إلى الوراء..
ترى هل تتحقق نبوءة (العريف) عندما كان طفلاً ما يزال في كُتْاب القرية: (آه يا ولد سيعلو شأنك يوماً ما، ولربما تصبح موظفاً قد الدنيا.. أي والله)..
تُرى هل تتحقق آخر أمنيات أبيه وهو يبث أذناه آخر وصاياه، يحذَّره من الفلاحة في أرض الغير التي تهد الحيل وفي النهاية يد وراء ويد قدام:  (بُني.. عليك بالوظيفة.. من يفوته الميري يتمرغ في ترابه.. الوظيفة يا ابني.. راتب في اليد ومعاش من بعدك ، يكفي النسل مرارة سؤال اللئيم).
.. والركب يدور، وأيدي الرجل لا تكف عن التلويح بالتحية، والناس من بعيد بين محيِّ ومستغيث..
هذا يطلب العفو عن ابنه السجين.. والآخر يسأل بعض المال..
وكثيرون كلَّتْ ألسنتهم لا تتمنى إلا فرصة عمل..
وتلك المرأة مكفوفة، معروقة، تتسربل السواد على عودها الجاف، أعياها النداء: أين ابني الوحيد؟.. خرج باحثاً عن عمل فلم يعد!!
تنطلق صرخاتها.. يحاول عودها الاقتراب.. والأيدي تبعد كل المقتربين.
وكلما دُفعت تلملم نفسها وتعود، حتى هبطت فتشبثت يداها بقدم أحدهم في محاولة مستميتة للوقوف، فانحنى ليتلخص قدمه تشبتها الرهيب، فعثرت أقدام الآخرين بهما، حيث صنعت كومة بشرية ينسلُّ الركب من حولها، بينما الكومة آخذة في الازدياد..
وهو فوق إحدى العربات ذوات الصناديق، فوق كتفه ترقد بندقية، وعلى رأسه يقبع الغطاء المعدني، كانت عيناه تكشفان كل مسرح الركب بأسياده وعبيده، لمحها نقطة سوداء، تروح وتغدو، تلوح وتختفي في تخلطها وتلبطها بين أمواج البشر.. هي يستطيع أن يترك (الخدمة)؟؟
هذه جناية.. هكذا قال.
وقال أيضاً: ستعود.. حتماً ستعود..
إلاَّ أنه لم يعد يراها، فأخذ بصره يلهث باحثاً ومفتشاً عن آخر بقعة كانت وقد غابت عندها، حتى لمح كومة لحم بشرية تأخذ شكلاً متنامياً، والركب ينسلُّ سائراً من حولها، فسكنته غُصَّة مفاجئة، إذ أيقن أن النقطة المختفية السوداء تساوي بالضبط مركز تلك الكرمة..
أرسل صرخة مدوية مرعوبة، وتطايرت بندقيته بعيداً وغطاء الرأس، ثم قفز عالياً حيث تكوَّم أرضاً بين الجموع... وقبل أن تنهض ساقاه كانت مئات الأقدام قد وطئته .. وما يزال الركب مستمراً، والأيدي تدفع كل من يحاول الاقتراب.
                          ****
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







محاولة لفك شفرة الغياب!

رؤية نقدية: سمير الفيل.


البطالة مشكلة  يعاني منها شباب كثير يأخذون في التزايد ، وقد كتب فكري داود هذا النص في محاولة لاقتراح سردي جديد حول الظاهرة ، فالشاب الذي ارهق ذاته في البحث عن عمل ، والذهاب إلى مكاتب المسئولين ، يقابل باستخفاف وإهمال ، او بإجراءات صورية ، مما يجعله يتخذ قرارا بمقابلة " الكبير" والشكوى له مباشرة فبيده حل المشاكل بإشارة من إصبعه.
يتحرك الموكب الرسمي ، فيما يحاول إيجاد ثغرة كي يندفع نحو السيارة ليسلم شكواه للكبير ، وهو يوشك أن ينجح في مسعاه غير أن الرجال في صناديق السيارات العالية المتابعة للموكب يقفون حجر عثرة أمام خطته.
مثل الحاجز البشري من أهل البلدة المشكلة الأكثر صعوبة فمن الصعب جدا أن يشق الصفوف ليتقدم لتلك السيارة التي تحاط بحراسة مشددة.
اندفع بكل قواه ليخترق الحاجز غير أن دفعة قوية أسقطته أمام السيارة فصدمته قبل أن تتوقف. أشار الكبير ليوقفوا التنكيل به ، وتم علاجه مع وصول الشكوى ليد الكبير.
هنا يتوقف الحدث الآني ليعود الكاتب في " فلاش باك"  فيستحضر صورة" العريف" الذي تنبأ له بالعمل في الوظيفة الميري ، وثمة امرأة مسربلة بالسواد تصيح بحثا عن ابنها الذي خرج طلبا للوظيفة غير أنه اختفى.
وفوق إحدى سيارات الخدمة العسكرية يقف شاب بزيه المموه حاملا بندقيته ، يرى المرأة ـ ربما كانت أمه ـ والزحام يكاد يطويها. يريد أن يصل إليها غير أن الأوامر الصارمة تمنعه ، وفي لحظة جنونية يقرر ان يقفز من العربة فتتطاير بندقيته ، ويتكوم أرضا بين الجموع الحاشدة، لينتهي المشهد بالأقدام المتدافعة تطئه  بينما الأيدي ما زالت تدفع كل من يفكر في الاقتراب من العربة.
كتب فكري داود هذه القصة ونشرها في مجموعة تحمل نفس الاسم" الحاجز البشري" سنة 1996 ، عن فرع ثقافة دمياط بالهيئة العامة لقصور الثقافة ، بما يعني أنه قد تنبأ بحادثة مماثلة سوف تحدث بعدها بثلاث سنوات في مدينة بورسعيد ولكن ربما بشكل مختلف.
فهناك شاب اسمه حسين محمود سليمان ، وشهرته " أبوالعربي " ، كان عاطلا بعد عودته من العراق ، وتقوم البلدية بطرده من السوق لعدم وجود ترخيص له بالعمل .  ينتهز مرور موكب الرئيس الاسبق محمد حسني مبارك  من شارع 23 يوليو فيقترب من السيارة وبيده خنجرـ حسب الرواية الرسمية ـ يحاول به طعن مبارك غير أن رصاص جنود الحرس الجمهوري ترديه قتيلا.
 قيدت الواقعة برقم 1159 لسنة 1999 ، أمن دولة. وهنا يبرز السؤال : هل كتابة النص القصصي يمكن أن تتوقع حدث بربط الأحداث بمسبباتها أم انها مخيلة الكاتب التي عالجت فكرة البطالة بهذا الشكل الذي تحقق بذات الصورة والطريقة عبر الواقع ؟!
إن غياب العدالة ، والفقر قد يضع شخص ما في دائرة الاتهام والمساءلة بل والقهر ( رميا بالرصاص ) . زد على ذلك أن رصاص " السلطة" يكون أسرع من حكمة العقلاء . لقد كان مرافقو الكبير أكثر رحمة من حراس مبارك رغم اتفاقهما في السمات والملامح والجذور !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





تعريف بالكاتب:

ـ ولد فكري الشربيني الشحات  دواد في 15 /5/1956   بقرية السوالم، مركز كفر سعد، محافظة دمياط .
ـ  هو عضو اتحاد كتاب مصر، والرئيس الحالي لنادي أدب دمياط ، وكان آخر عمل وظيفي له هو مدير مدرسة السوالم الثانوية.

ـ وهو من أهل الريف الذين يتميزون بالطيبة والنقاء والكرم ، وقد أصبح له مشروعه السردي للكتابة عن قريته من خلال التحولات الاجتماعية والسياسية .
ـ كتب عن تجربة السفر كتابة مهمة جدا حيث تلمس أسرار الحياة في الجبال ، فالقرد بطل في القنفذة وبيشة وأبها ، وهناك حياة ماكرة ، موازية سلط العدسة عليها ، وكتبت عن مجموعته " صغير في شبك الغنم " مقالا مطولا نشر في " المحيط" فترة تولي رئاسة المجلة الأستاذ فتحي عبدالفتاح.
ـ له في الرواية عدة أعمال، منها :" عام جبلي جديد" ، " وقائع جبلية" ، طيف صغير مراوغ " ، " المتعاقدون" وقد فازت بجائزة " أخبار اليوم" كما فاز بجائزة القصة في اتحاد الكتاب عن مجموعته" دهس الطين" ، وصدرت له منذ شهر  ( يوليوسنة 2018 ) رواية عن دار الهلال بعنوان" الشوك والياسمين"  .
ـ له في أدب الطفل كتابات مهمة ، منها:" سمر والشمس " 2004 ، " الاختيار الصحيح" ..
ـ اتصور أن مهمة فكري داود الحالية هي التأريخ للقرية المصرية ـ السوالم نموذجا ـ في فترة التحولات . وهو ما كتب عنه بشكل ما في " العزومة" 2013  ، وفي " دهس الطين" 2016.
ـ حصل فكري داود على منحة التفرغ لهذا العام ، 2018. وأعتقد أنه سيقدم مشروعا سرديا طموحا.
ـ كان فكري داود من مؤسسي مبادرة " في حب نجيب محفوظ" ، و عمل لفترة مشرفا على " المنتدى الثقافي لمركز شباب السنانية " ، ولحق به المشرف الحالي القاص حلمي ياسين .
ـ كان فكري داود ضيفا على مختبر السرد بالإسكندرية 31 يوليو 2018  ، تحت إشراف الروائي منير عتيبة، وتحدثت عنه الناقدة إيمان الزيات عن مجموعته القصصية " العزومة" . كما استضافه قصر ثقافة الشاطبي بإشراف الكاتب محمد عبدالوارث ، يوم 9 سبتمبر 2018 ، وكتبت عنه الدكتورة هالة الهواري دهس الطين" .



تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في سبتمبر 11, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: