Powered By Blogger


فيس بوك


 قصة قصيرة
للكاتب : سمير عبد الفتاح
تنويه هام ( سمير عبد الفتاح، ينتمي لجيل السبعينيات، وهذه القصة، من أخريات ما كتب، وننشرها على نحو استثنائي، فقد توفاه الله عام 2014) 


Face book


تحرير ..تحرير
هكذا صاح سائق الميكروباص , فقاومت ألام المفاصل , وركبت إلى ميدان التحرير , كنت وحيداً حينما اخترت المقعد الأخير وبات على من يريد أن يجاورنى , أن ينحنى , وينثنى, ويطوى المقاعد ويفتحها , لكى يجلس بجوارى .
تحرير...تحرير
وحين وقف جانبا , ركبت بنتا من بنات " الفيس بوك " ..الجيبة طويلة , خشنة , والبلوزة لا علاقة لها بلون " الجوب " والإيشارب " بلون سابغ يلف رأسها الصغير ويؤطر ملامحها الحيادية , التى اكتسبتها ملايين المصريات , بعد أن تفجر النفط فى بلاد الرمال واللحى . وعاد الرجال بالعتر والشباب , والنساء لبيوت الشعر .
تحرير...تحرير
البشرة مختلطة , تملأها حبوب وبثور , والأنف لا علاقة له بالوجه , والجبهة مجانية مربوطة بإيشارب مثبت بدبابيس وأبر معدنية حادة , تجعلك تخاف على عينيك , وتزهد فى كل النساء .
تسمح يا حج .. خش جوه
وبكل سرور تنازلت لها عن مكانى , إلى الجانب البعيد , وفى غمرة الإحساس بالجميل , انتظرت أن تقول :
شكرا أو حتى " ميرسى " لكنها تشاغلت بالنظر إلى الشارع المزدحم , وبدافع من مروءة قديمة , التصقت بالجانب الأخر , علها تشعر بالراحة والأمان , لكن ذلك لم يلفت نظرها أيضا , فعزوته لأخلاق الزحام , واختلاف الأجيال والسنين.
تحرير ...تحرير
وركب شاب من ذلك النوع الذى يحمل موبايلين وعلبة سجائر أجنبية , وجلس بيننا دون أ، يشعر بأى جميل, الشعر مفلفل ومثبت بـ " الجل "  والبنطلون " ديرتى " مقطوع على الركبتين , و " التى شيرت" مرسوم عليه علم أمريكا وسهم " الموبايل " الأحمر يتحرك بعصبية بين الأيقونات الملونة .
-        رايح كوبرى الخشب ؟
هكذا تجاهلنى وسأل الفتاة فتوترت , وقالت دون أن تنظر اليه , أو تهتم بأمره : اه .
ضغط الولد على زر الموبايل فسمعنا عبد الحليم يتساءل : أسمر يا اسمرانى ..مين قساك عليا ؟
سرقت البنت نظرة إلى شعره الخشن , وكادت تضحك فيما راح الولد يلعب بالموبايل ويبادلها النظرات وهو يتصنع التطلع عبر النافذة , وبخبرة السنين توقعت سيناريو الأحداث :
الولد : سينزل فى بولاق لانه بيئة . والبنت : ستنزل فى محطة الجامعة لأنها تضع كشكولا على ساقيها , وأنا : ربما أنزل عند كوبرى قصر النيل , أتأمل الأمواج لعدة ساعات , أو اذهب إلى ابنتى الوحيدة بحلمية الزيتون , فاقبل ولديها قبل أن يناما ...وامنحهما بعض اللعب , ولأمهم بعض نقود التقاعد , ثم أعود لبيتى الخرب, المقفز لأنام نومة العازب .
الساعة كام معاكى ؟
سبعة إلا ربع
هكذا ردت الفتاة بفتور على سؤال الفتى , وهى توقن أنه لا يسأل عن الساعة , ولا يهمه الزمن , وإنما " يجرها في الكلام " وهو ما تأكد لي ولها حين سألها من جديد :
-        إلا ربع .. ولا إلا تلت ؟
فلم ترد عليه , واكتفت بأن مدت يدها نحو عينيه بغضب أنثوى مفتعل ليرى بنفسه فمسك يدها , وكانه يريد أن يقبلها , ولم ينظر إلى الساعة .
-        الله ...صوابعك حلوة قوى...
-        بلاش قلة أدب
قالتها بحدة وهى تشد يدها الناعمة وبقوة , ففكرت أن أصرخ فيه :
عيب يا ولد احترم نفسك
لكننى خشيت رد فعله , وانتظرت ما سيجرى.
صافينى مرة ..وجافينى مرة ...ولا تنسنيش كده بالمرة هكذا قال الموبايل قبل أن يقول:
زيرو عشرة , سته وستين , تسعين , تلات أربعات.
دا رقمك فى السجن , ولا فى بطاقة التموين ؟
رقم موبايلى .
مصمصت البنت شفتيها بامتعاض وصمتت ففكرت أن أصيح بالنيابة عنها :
وهى مالها ومال موبايلك يا وسخ ؟
لكنى سكت .. وانتظرت أن ترد بنفسها لكنها أدارت وجهها نحو الشارع المزدحم وسكتت.
وانتظرت كارثة , ربما كان أهونها أن تبادر فتصفعه على وجهه لكنها لم تفعل فصحت فيه محتدا .
يا تقعد كويس يا أخينا
أهلا ...لامؤاخذه يا حاج هكذا صاح بابتهاج من اكتشف وجودى , ثم أهملنى وسألها : والدك ؟ ... فهزت رأسها نفيا وإنكارا فوجدتنى أغضب مرتين ,مره من طريقة نطقه للحاج ومرة من طريقة نفيها لأبوتى .
مش عايزه تقولى رقمك ؟ طب اكتبيه
سمعته يهمس بذلك فتمنيت أن أستعين بالشرطة وتخيلته يضرب على قفاه وقد حلقو شعره فاستراح قلبى وهدأ بالى .
قال الموبايل " قوم أقف وانت بتكلمنى ...ولا تتكلم ولا " فتحت البنت كشكولها وراحت تخط  بالقلم الرصاص خطوط ًغامضة وهو يتابعها باهتمام لاعج ... ويحاول أ، يسجل على موبايله ما تكتبه , فتنبهت البنت وراحت تعابثه , ولا تكمل الرقم العاشر , بل ترسم أشكالا عشوائية مضطربة , فيتشكل على الورق صورة لحمار أو بغل بلا اذنين فأجدتنى أخذ القلم وأعاونها على رسم الاذنين منتصبين كقرنى خروف فتضحك البنت ويلاحظ الولد ذلك فيصيح مستنكرا
جرى إيه يا عم الحاج ... متخليك حلو امال
ويبدو أنه بحث عن أغنية يرد بها على الموقف فلم يجد وأثناء انشغاله كانت البنت قد كتبت الرقم على قصاصة نزعتها من الكشكول وراحت تبرمها بين أصابعها الدقيقة بطريقة تعمدت أن تكون فاترة ولا مبالية
ايه كتبتيه ؟
فوجئت البنت بالسؤال فنفت على الفور وكادت ترمى بالقصاصة من النافذة لكنها وجدتها مغلقة فبرمتها بحدة بين أناملها المعروقة وحين وجدتنى اتابع كل ما يجرى تصنعت الغضب ثم اعلنت عنه حين رايتها تشيح بوجهها وتهمس " ياسم " وسمعته يهيب بها
اكتبيه ..اكتبيه
تطلع بعض الرطاب لما يجرى خلفهم ولابد أن السائق قد تطلع بدوره ولكنهم اطمأنوا على توازن الكون حين وجدونى بينهما وفيما كنت اتعجل محطة الجامعة ليرتاح قلبى سمعت الولد يتحدى الجميع ويخطرها باسمه بل رأيته بعينى هاتين اللتين سيأكلهما الدوود يأخذ القلم من يدها ويكتب رقمه على كشكولها الجامعى وهى تتمنع وتتدلع وتتجاهل وتتمايع وأنا أهمس لمن يغلى فى عروقى " اصبر على جارك السو" وأتجاهل الشعور بأنتمائى لجيل قديم جيل لم ياخذ الدنيا غلابا ولم يعد يشكل بحضوره أو غيابه أى مهابة يمكن الرهان عليها فأتذكر طفولتى الباكرة التى خلت من كل بهجة وأرى فى عتمتها الكابية وجه أبى وهو يتعجل رجولتى واسمع أمى وهى تشبهنى بالبنت البنوت  واتذكر كيف عجزت عن إقامة أى علاقة مع أى أنثى حتى تزوجت كانت تكفى كلمة همسة خطوة أو هزة رأس لأنال من أريد لكن تحطمت كل علاقاتى على صخور الخجل والممانعة
عندى ورشة صيانة فى ناهيا ... و...
ياى بيئة
تردد هذا التعبير فى خاطرى فلم أدر من قاله : أنا أم هى ؟
لكن ما توقعته لم يحدث إذ أتت محطة الجامعة وانتظرت أن تنزل ولكنها لم تفعل فصحت فيها مذكرا ومتعشما
الجامعة يا أنسة
فلم تنزل ولم ترد بل وزنتنى بعينيها الساخطتين وسكتت فصحت بحدة وكأننى أرمى بأخر سهم فى جرابى
الجامعة يا أنسة .. الجامعة
فرد الولد بقلة أدب أربكت أحداث السيناريو:
وأنت مالك يا حشرى
وانتظرت محطة الكوبرى وهالنى برود البنت وكأن إهانتى لا تعنيها فى شئ صاح السائق
كوبرى الخشب اللى نازل الكوبرى
وشعرت بسعادة غامرة وأنا أرى ينجنى ويطوى المقاعد قبل أن يغادر الميكروباص
خلاص ؟ هكذا سمعته يهمس بعينيه الجريئتين ورأيت البنت تشيح بوجهها عنه فى الوقت الذى كانت تدس الورقة المبرومة فى يده غاضبة وهو يحدجنى  بشماته ويودعنى بيديه:
باى ...باى يا جدو وسلم لي على " الفيس بوك "


قراءة نقدية: حسن الجوخ
" القصة القصيرة " من اللحظة المنفلتة , لحظة حادة كشفرة موسى , متوحدة ومبدعها , تنعزل عما مضى , لا تتصل بما بعدها , لحظة مكتنزة مركزة , تتواشج ومعطياتها زمنياً ومكانياً وإنسانياً , تتماس وما حولها من أصوات وجمادات وأجواء , وحراك سلوك وجداني بشكل مباشر أو غير مباشر .
لاشك أن القبض على لحظة واقعية متحركة متطورة , ذات زمن زئبقي مخادع , لحظة كهذه , السيطرة عليها وتطويعها لمقتضيات فن القصة , لا تتسنى إلا لكاتب موهوب متمرس , ليجدها ويعبر عنها من خلال تقنيات " القصة القصيرة " في بناء صغير , يتسم بالتكثيف والإيجاز والرهافة أمر صعب , فهو فن صعب مراوغ , رغم بساطته البادية لمن لم يجرب كتابته أو يعرف أسرار طبيعته .
هذا ما يبدو لنا في قصة "  face book " للكاتب المصرى الجاد  سمير عبد الفتاح , احدى قصص مجموعة " والان .... ألبس القناع " الصادرة في سلسلة " كتابات جديدة " عام 2012 ,  التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب  -
يبدأ الكاتب واصفاً الوحدة المكانية للقصة , الأرضية التى تتحرك عليها أحداث قصة اللحظة تلك , ميكروباص التحرير المعروف , يتحرك في خط سيره المعتاد , عبر المسافة بين بولاق الدكرور والتحرير , مروراً بكوبرى الخشب والجامعة وكبرى قصر النيل .
ثم يقدم شخوص قصته , أو بعبارة أدق شخصيتي القصة – من خلال عينيه – كرواية : بنت من بنات " الفيس بوك " ترتدى جيبة طوية " خشنة وبلوزة لا علاقة لها بلون         " الجوب " , والإيشارب بلون سابغ , يلف رأسها الصغير ويؤطر ملامحها الحيادية , التى اكتسبتها ملايين المصريات  " ص 13 . " وشاب يحمل موبايلين وعلبة سجائر أجنبية
شعره مفلفل ومثبت ب " الجل " والبنطلون " ديرتى " مقطوع على الركبتين و " التى شيرت " مرسوم عليه علم أمريكا , وسهم " الموبايل " الأحمر , يتحرك بعصبية بين " الأيقونات  الملونة " ص 14
تتمحور القصة حول رغبة الشاب في الحصول على رقم " موبايل " البنت , أملاً إقامة علاقة معها – بقدر ملحوظ من الجرأة الزائدة واللامبالاة – يظل الشاب يحاول ويحاول حتى ينال مأربه , من خلال توجيهه أسئلة للبنت – الهدف – يعرف إجاباتها جيداً مسبقاً- رايح كوبرى الخشب ؟- الساعة كام معاكي ؟ زيرو عشرة , سته وستين, تسعين تلات اربعات – هكذا همس وسألها : وانتى رقمك كام ؟ اكتبيه .... اكتبيه . البنت كانت تجيبه في توتر ودون أن تنظر إليه أو تهتم بأمره , قرة لم ترد عليه واكتفت بمد يدها نحو عينيه بغضب أنثوى مفتعل , وقرة تصده في شبه حدة : بلاش قلة أدب , وقرة تتجاهله " تفتح كشكولها وتخط بقلم رصاص من خطوطاً غامضة وهو يتابعها ويحاول أن يسجل على " موبايله " ما تكتبه , فتنبهت البنت وراحت تعابثه , لا تكمل الرقم بل راحت ترسم أشكالاً عشوائية مضطربة , فيتشكل على الورقة صورة لحمار , أو بغل بلا أذنين " ص 17,18
الراوية ذلك العجوز , المقاوم لاَلام المفاصل , الحافظ للأصول والأعراف المتوارثة , المتمسك بالقيم التقليدية السائدة , كان على طول القصة غاضباً مغتاظاً من ذلك الشاب الجريء البجح , كاد غضبه الصامت ينفجر أكثر من مرة – ويجعله يشتبك والشاب في عراك لا تحمد عواقبه . "موبايل" الشاب يعلق على ردود البنت له بأغان عاطفيه ساخنة أو ساخرة في عز حرقة دم العجوز الطيب يسمع الشاب يقول " خلاص .. يهمس بعينيه الجريئتين , والبنت تشيح بوجهها عنه في الوقت الذى كانت تدس الورقة المبرومة في يد الشاب وهو يحد جنى بشماته ,يودعني بيديه : باى باى .. ياجدو.. وسلم لي على " الفيس بوك " ص 20
هذه القصة تعكس صراعاً بين جيلين , جيل يتمسك بالمبادئ السامية والقيم التقليدية السائدة الموروثة وجيل حديث ساخط متمرد جريء  , يسعى إلى إقامة علاقات دونما تدبر أو حساب , أملاً تحقيق قدر من المتعة وسد الفراغ .
يلحظ قارئ هذه القصة أن كاتبها يقبض جيداً على لحظته القصصية المختارة , وراح بسرده السلس المتدفق يعمقها , تعميق يثرى عناصرها ويبلور محتواها , راسما ملامح شخوصها المادية والمعنوية دون إطالة أو ملالة , مراعياً في حرفية مسألة التكثيف اللغوى على مستوى المفردات أو التركيب كعنصر جوهرى من اهم عناصر فن "القصة القصيرة" المعاصرة .
من يقرأ متأنياً فاحصاً قصة " face book " لسمير عبد الفتاح يجده قد أضفى عليها ملامح تجديدية لا تنكر تتلخص في :
أ – توظيف الأغانى في متن البناء اللغوى مما أعطى اللغة القصصية تزاوجاً جميلاً بين النثر والشعر – احياناً.
ب – الموازنة الدقيقة بين مشاعر وانفعالات شخصيات القصة وردود أفعالها الخارجية.
ج – تضيق الهوة بين اللغة العربية والفصحى واللهجة العامية المصرية .
رحم الله الكاتب سمير عبد الفتاح فقد كان إنساناً ودوداً عفوفاً وكاتباً جاداً موهوباً .



سمير عبد الفتاح
قاص وروائي وناقد
ولد في 21 أبريل 1950 – توفى في 12 سبتمبر 2014

المجموعات القصصية :
1 – " حان وقت الانتظار " – مجموعة مشتركة - الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1989 .
2 – " سبع وريقات شخصية. لعامل التحويلة المنتحر"– الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1993 .
3 – " تطهر الفارس القديم "– سلسلة أدب الحرب - الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1996 .
4 – " حارس الغيوم " – سلسلة " أصوات " الهيئة العامة لقصور الثقافة – 1996
5 -" أخبار سوسو " – مؤسسة قراءة للترجمة والنشر – 2008 .
6 -" شتاء العمر " دار نهضة مصر – 2008 .
7 -" والان ألبس القناع " سلسلة " كتابات جديدة "- الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2012 .
الروايات :
1 – " خيانة شرعية " – مؤسسة قراءة للترجمة والنشر – 2005
2 – " عشر دروس من بيتنا القديم " – أربع روايات قصيرة - دار نهضة مصر – 2008
3 – " الحائط الأخير " صدرتْ بعد وفاته في روايات الهلال – دار الهلال – ديسمبر 2014 .

النقد:
1 – " البعد الغائب " – دراسات في القصة والرواية – مركز الحضارة العربية , وهيئة قصور الثقافة – 2000
2 – " الوتر المشدود " – ببليوجرافيا للقصة الإقليمية في مصر – سلسلة الكتاب الفضى – نادي القصة بالقاهرة – 2006
3 – " الضوء والنار " – قراءات في القصة والرواية – كتب عربية – 2007
4 – " القصة القصيرة في مصر " السبعينيات نموذجاً – كتب عربية – 2008
5 – " معارك سياسية " تأملات في السياسة والثقافة – كتب عربية – 2009


تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في سبتمبر 08, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: