Powered By Blogger






زهرة الورد الجورى

قصة: سمير الفيل

على المنضدة الدائرية مفرش مشغول بزهور التمرحنة بزهورها الصفراء المكتنزة ، وهما جالسان فى أقصى جنبات النادي . حتما يذكر سنوات الخطوبة التي مرت كالنسمة الرقيقة . مساء كل جمعة كان يذهب إليها في بيت العائلة، ويجلس معها على أريكة ناعمة  لها كسوة من القطيفة الزرقاء ، ينظران إلى أطفال الحي   من نافذة تطل على الشارع . كان يمسك يدها الدافئة دوما ، ويهمس في أذنها : سيكون أول إنجابنا بنتا لها وجه القمر مثلك . ترد عليه بخجل متورد : أشعر أنه سيكون ولدا ، له نفس سمرتك .
جاء الجرسون ، فمسحت دمعة انحدرت على وجنتها ، فيما  لملم أوراقه ، وطمأنها أن كل الأمور تسير في مسارها الصحيح . سيرسل لها ورقة الطلاق على عنوان البيت لا العمل حتى لا يحرجها . هزت رأسها في انكسار تشكره . اغتصب ضحكة وهو يتمتم : كل شيء قسمة ونصيب . قبل أن يرتبا المسألة  تماما جاءت نسمة وخالد. اندفعا في أحضان  الأم ، ونظرا  بعتاب مكتوم نحو الأب الذي كان يقطف بأصابع مرتجفة  بتلات الورد الجوري الحمراء في ارتباك ملحوظ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




نص مفتوح ملئ بالاحتمالات
                                  رؤية نقدية لـ:  سيف بدوي

بلا مقدمات أقول إننا أمام نص ينضح بالخبرة علي المستويين الحياتي والفني .. نص يقدم في بساطة مقولة أن المضامين تطرح اشكالها .. فليس للشكل البنائي للنص وجود منفصل عن جملة المقول داخله .. زهرة الورد الجوري نص يتشكل بنائياً علي علاقة الثنائية التضادية : وهذه العلاقة يمكن رصدها عبر جدل : الذكر / الأنثي ، الماضي / الحاضر ، الحلم / الواقع ، الجمال / القبح ، الرقة / القسوة .
يعتمد سمير الفيل الثنائيات كآلية دائمة العمل لإنتاج المضمون عبر نص قصير .. يتسم بالتقشف اللغوي ويتحلي بالزهد في الثرثرة عن الحدث التفصيلي ، ويمكن لنا أن نرصد آلية جدل الثنائيات من انقسام النص ذاته إلي قسمين محددين يتم الانتقال بينهما في براعةإعتماداً علي الحس السينمائي بالقطع الحاد بين القسمين " الحلم .. الذكري / الواقع .. الآتي " .
باستخدام لفظ واحد وهو ( جاء الجرسون ) ينقلنا سمير الفيل نقلة خاطفة بلا مقدمات وبلا تعليق من أحد طرفي العلاقة البنائية الثنائية إلي الطرف الآخر وهو ما يشف عن وعي الفيل الحاد بالتداخل والتعاضد بين البناء وعناصره ، بين الشكل ومحتواه .
ولكن يجب ألا يقف بنا الأمر عند مجرد رصد هذا البناء فقط بل من المتوجب البحث حول دلالات ذلك عبر النص ، فالنص من النصوص القصيرة التي تحمل بين سطورها المضمر الذي يجب أن يكتشف وسيلة اكتشافه عبر هذا النص هو هذا التناقض الدائر بشكل مستمر بين ثنائيات النص والتي يجب أن تنتهي إلي أحد طرفي المعادلة .
والحقيقة ونحن إزاء نص واقعي يخلو من أي نوع من الفنتازيا علي أي نحو ، كما يخلو من غير المتوقع أو الغرائبي فإننا نكاد نقطع بأن التناقض سينتهي إلي قراءة الواقع الآني وطرحة باعتباره الهم الرئيس للمقول في النص ، الواقع بكافة رموزه وأوصافه المبثوثة داخل النص : القبح / القسوة / انهيار الحلم الإنساني ولو كان ذاتياً !!
لقد اعتمد الفيل تقنية الراوي المحايد ليحمل بها علي صدق هذا القبح ومرارة تلك القسوة بكونها هي كذلك وفقاً لقانونها لا لرؤيته التي قد نختلف معها ، لقد حاول من خلال الراوي المحايد أن يقدم الحقيقة وكأنها معياراً موضوعياً لا يحمل في طياته أي نوع من الحكم الشخصي أو الذاتي .
فالكاتب في النص هو الراوي ، غير أنه يظل متخفياً بقناعاته وراء شخوص هذا النص ، تاركا المقول الأساس فيه لما ستسفر عنه العلاقات الثنائية التي أشرنا إليها سلفاً .
إن النص برمته يقع في الإطار الزمني الآني ( الواقع ) غير أن الفيل ما يلبث بعد عدة كلمات أن يقطع هذا الزمن قطعاً فجائياً ويرتد بنا إلي الماضي ( الحلم الرومانسي ).
وإن كان قد مهد لهذا الارتداد ببعض التفاصيل الرقيقة كوصف المكان الآني : مفرش مشغول – زهور التمر حنه – الجلوس في أقصي جنبات النادي – النسمة الرقيقة ... ، ولم يتطاول هذا الوصف إلي ما عدا المكان وكأنه يقول أن المكان وإن ظل – كمظهر - جميلاًً رقيقاً إلا أن ذلك من قبيل تجمل الواقع أو لبس الأقنعة بينما خلف القناع يكمن : التشوه والقسوة والفقدان راصداً ذلك عبر العلاقات الإنسانية بين شخوص هذا النص والتي يصعب عليهم تجميلها .
ينتقل الفيل بعد ذلك إلي الماضي ( الحلم ) مستعيناً بالتفاصيل الدقيقة عبر مفردات ناعمة أو عبارات دافئة تعمق الإحساس بمرارة واقع الشخصيات " وإن كان موضوعياً " : أريكـة ناعمة – كسوة من القطيفة – يدها الدافئة .
ولم يستطرد الفيل في هذا المقطع الحلمي وكأنه يقول أن هذا الجمال ليس بمقيم ، وأن " القسوة والقبح " باقيان علي نحو أكيد ، واللذان لم يقتصر حضورهما في النص علي المستوي اللفظي فقط ، بل وفي تقنية القطع السينمائية ، فحين انتهي الفيل من هذا الشرود الحلمي لم يعقب علي أي نحو ولم يفكر في الخروج منه عبر حكم قيمة ما ، بل أقحم السرد المضاد فجأة وبقسوة ليقطع هذا الحلم " جاء الجرسون "، فها نحن إذن نصطدم بالواقع بقسوة وعنف شديدين .. إذن لا تسترسل أيها القارئ في الحلم ، لأنه لم يدم طويلاً .
في الجزء التالي من النص ، تحضر المفردات القاسية الجافة بدورها سواء علي مستوي المعني المعجمي أو الدلالة اللفظية أو التركيبية : مسحت دمعة – لملم أوراقه – ورقة الطلاق – إنكسار – اغتصب – قسمة ونصيب.
بقي من النص جملة وحيدة ، وهي الجملة الأخيرة التي تتسم بالطول ، والتي تحمل عمق الصراع بين المتناقضات جميعها والتي يختتمها الفيل بعبارة شديدة الإيحاء والدلالة " .... الأب الذي كان يقطف بأصابع مرتجفة بتلات الورد الجورى الحمراء فى ارتباك ملحوظ :
" قبل أن يرتبا المسألة تماما جاءت نسمة وخالد. إندفعا فى أحضان الأم ، ونظرا بعتاب مكتوم نحو الأب الذى كان يقطف بأصابع مرتجفة بتلات الورد الجورى الحمراء فى ارتباك ملحوظ ! ".
وكأن الفيل في إشارة متخفية يحمل مسؤلية هذا الإنكسار لأحد طرفي العلاقة ( الرجل / الأب ) والذي كان يقطف بتلات وردة جورية حمراء في ارتباك ملحوظ .. مرمزا بذلك إلي العلاقة ذاتها وما أنتجته من ثمار ( نسمة وخالد ) وليترك لنا الفيل النص علي هذا النحو كنهاية مفتوحة تمتلئ بالاحتمالات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





سيرة موجزة

سمير الفيل كاتب من شمال مصر. يعمل ويعيش في مدينة دمياط .  بدأ مشواره الأدبي بكتابة شعر العامية ، وفي هذا الصدد قدم خمسة دواوين تحول أولها  ،  ديوان " الخيول " 1982 إلى  عرض مسرحي بعنوان" غنوة للكاكي " سنة 1990 .
منذ 1974 حاز على ثلاث جوائز قومية في أدب الحرب عن قصص " في البدء كانت طيبة" ، " سقط في الثانية صباحا" ، " قرنفلة للرحيل وخوذة". وقد صدرت روايته الأولى لتعالج هذا الحدث " رجال وشظايا" 1990 ، والثالثة " وميض تلك الجبهة" 2008 ، أما " ظل الحجرة " 2001 ، فهي لم تبتعد عن هزائم الإنسان المصري في زمن ساده الارتباك وقلة القيمة.
منذ سنة 1981 بدأ النشر بانتظام في مجلة " إبداع" وكانت بدايته مع" الساتر" ، بعدها احتلت قصصه مساحات واسعة  من ديوان السرد العربي خاصة بعد انضمامه لموقع القصة العربية .
أصدر 14 مجموعة قصصية خلال 18 سنة كان من بينها: " أرجوحة" 2001 ، " شمال.. يمين" 2007، " مكابدات الطفولة والصبا" 2007، " صندل أحمر" 2008، " قبلات مميتة " 2009، " هوا بحري" 2010.. ثم " الأبواب" 2013 ، " جبل النرجس " 2013 ، " حمام يطير" 2013، " اللمسات" 2015 ، وأخيرا" الأستاذ مراد" 2016.
تميل نصوص الكاتب للاغتراف من تجارب الحياة ، والانصات لصوت الجماعة الشعبية حيث يتحرى البساطة والصدق الفني في كتاباته التي تتميز بالتنوع والغزارة ونصوع الخطاب السردي .
تحدث عنه جورج جحا في تقرير ل" رويتر" مؤكدا أن قصص البسطاء  في " شمال ..يمين" .. " تروى بظرف جميل وتحسس ولطف ودفء نواحي وزوايا من حياة الإنسان الجندي ، ومن نفسه كذلك".
حاز على الجائزة الثانية في أدب الطفل " موبل" 1989 ، " أبها الثقافية" 1992 ، جائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة 2017 . 
يكتب بشكل يومي في مقاهي مدينة دمياط ، وقد انجز كتابات عديدة في المسرح ، والنقد ، والدراسات ، والتراجم " عبدالعزيز مشري "  2003 ، وعن التحولات الاجتماعية " البيت القديم " 2015 .
صاحب مبادرة" في حب نجيب محفوظ " التي أقيمت في مقاهي وقرى مدينة دمياط مع مجموعة من الزملاء .
 قدمت له الإذاعة المصرية برنامجين  يوميين " وجوه من أكتوبر" ، و" أوراق أكتوبرية"  من إخراج مجدي سليمان. 1990 ـ 1995 .
تضمنته انطولوجية القصة العربية بالولايات المتحدة الأمريكية " على نسج الشمس " حيث ترجم له الدكتور عبدالله الطيب.2012.
شارك بفاعلية في جمع التراث اللامادي لصالح منظمة اليونسكو الدولية ، مع مجموعة من الخبراء في هذا المجال البحثي الهام 2011 ـ 2012. .
أنجز رواية من جزئين عن ثورة 25 يناير 2011 تحت الطبع هما ، " نظارة ميدان" ،" اغنية يناير الحزينة " وذلك عام 2018.
( انتهى)


تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في سبتمبر 08, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: