Powered By Blogger




 الظلام وحده لا يحجب الرؤية
 قصة لـ : محمد عبد الحكيم


ـ امشِ يا ولد تعَبت قلبى .
أسرعُ، وعندما ألحق بها، أمسك طرحتها السوداء المتدلية على ظهرها، أطأ قدميّ في آثار قدميها، أراني أفرج الخطوات، والأرض تمرق من تحتي حاملة القش وآثار نبش وأقدام معاكسة.
ـ هيـ يـ يـ هـ غزالة.
حلقات من التراب الناعم على هيئة قرطاس من قراطيس لب عبد الحكيم، أمسك قشة، أنبش في التراب، زوبعة عفريت تأتي في حلقات ثم تحتضننى، وعندما يندثر الغبار أنادى عليها فتنظر خلفها، تقف برهة، تضغط على معصمي وأنفاسي تتلاحق، يدها الأخرى ممسكة بالبقجة التي جهزتها في المساء وبها الحرير المغربي وأقمشة أخرى لم أعرف صنفها .
ـ احنا فين يا أمي؟ .
ـ إمش بَس .
على مشارف قرية لم تخبرني أمي باسمها، ناس ينظرون، وأنظر فى وجه أمي، أراها تنظر إليهم وتسدل جفنيها مع ابتسامة خفيفة، وعندما يمضون بعيداً دون أن يسألوها، تمصمص شفتيها وتنادى:
ـ هدووووم العراااايس .
تنزوي بجوار منزل، تنزل البقجة وتجلس أمامه، تخرج علينا سيدة تصافح أمي وتطبطب علىّ، نسوة ينزلن الجِِرار، يقلّبن ثم لا يشترين، واحدة تفاصل مع أمي، أبعثر بصري في جميع الأرجاء، كلبان يتشاجران، بطة تنقض على صرصور، تطرد المرأة الكلبين فيمضيان بعيداً ثم يتشاجران .
الظل يأخذ شكلاً متعرجاً على الحائط، أحدق فيه .. أرى رجلاً بلا ذراعين:
ـ شايفه الراجل يا أمي ؟.
                                            ـ بكام دى؟.
                                            ـ ببلاش علشان خاطرك .
ـ يا أمى يا أمى شايفه الراجل .
تنظر وهى تحاول أن تدارى عيباً فى القطعة :
ـ أيوه شايفاه.
                                               ـ لا لا د غالية .
                                               ـ وحياة ابنى زى ما بقولك .
نظرتُ إلى أعلى، صومعة من الطين توازى جدار الحائط الذي نرتكن عليه، تعقبتها مراراً مردداً بصري بينها والحائط، وجدتها على الحائط المواجه لنا، ابتسمتُ وجلست بجوار أمي أشاهد النسوة اللاتي يقلبن.
ـ أنا جوعان يا أمي.
ـ حاضر لما نروّح .
بكيتُ، دخلت المرأة المنزل وبعد قليل خرجت ومعها رغيف وقطعة جبن .
ـ خد يا حبيبي .
تكبش أمى وجهي :
ـ انت دايما فاضحني .
واحدة تهدئ من غضب أمي :
ـ د عيل .
تبتسم أمي بخجل وهى تنظر محدقة فى الطعام :
ـ هات حتة  وانت دايما طماع .
تضحك النسوة، وتعود تحكى لهن عن أبى الذي مات، وعن الرجال الذين تقدموا إليها ورفضتهم واعتكفت على تربيتى، يمصمصن شفاههن وتنظر واحدة إلى الأخرى فى نوع من عدم التصديق، وتعطينى واحدة قرشا، تنظر أمي إلىّ فأرفض، ولكنها تبتسم فآخذ القرش وأضعه بين يدي وأنا في غاية السعادة .
تحول ضوء المكان إلى اللون الباهت، واختفى الرجل من على الحائط، لملمت البقجة وودعتنا النسوة، وفى الطريق اتجهت إلى بائع البرتقال أخذت كيلو واعطتني واحدة صغيرة بعد أن أخذت منى النقود .
خرجنا إلى الجسر، نسرع الخطى، أنظر حولي حيث سيقان الذرة تحجب عنى الخلفية البعيدة، أنظر ناحية الغرب:
ـ جهنم الحمرا يا أمى .
ـ إمشِ طيب علشان الدنيا هتعتم .
بدأ اللون الأسود يغطى على الأحمر ، كدت أتعثر ، أحكمت قبضة يدها على معصمي، أكاد لا أرى شيئا:
ـ يأ مي أنا خايف .
ـ لا تخاف امشِ .
إزداد خوفي عند سماعي خشخشة في أعواد الذرة، الخشخشة تزداد، تقترب، تختفى، صوت يستوقفنا، صوتان، ثلاثة، يجرون أمي بقوة، تزداد الخشخشة، يختفي صوت أمي المتحشرج وهى تستغيث، ينخفض، يندثر :
ـ أمى  أمى ى ى ى  ...
حملقتُ في التراب فلم أجد آثاراً لقدميها .
--------------
نشرت فى الثقافة الجديدة مايو1995 .
القصة الفائزة بجائزة الثقافة. 




 قراءة نقدية لـ: سيد الوكيل
قصة (الظلام وحده لا يحجب الرؤية) تنطلق من (تيمة) اجتماعية شهيرة وشائعة (فقد الأب الحامي). ولم يخبرنا السارد بأي شيء عن الأب، ولا عن ميتته،فهذا الجزء القدري من الحكاية ليس من أهداف السرد، فقط ما ينتج عنه من أثر، وشعور باليتم لدى كل من الابن والأرملة، ولكنه أيضًا لا يقف عند مجرد الترديد الغنائي لمشاعر اليتم والفقد بل يتحرك به في اتجاه التشكيل السردي. فالطفل يمسك بطرحة الأم التي تحمل فوق رأسها بقجة،تبيع ملابس ومستلزمات العرائس، وتدور على بيوت القرية،تدخلها مرحب بها، لتصبح كل البيوت بيوتها.
وفى حين تعطى الأم كل تركيزها لتبيع قطعة من القماش لزبون ما، نرى الطفل منشغلا بعالمه الخاص،انه عالم طفلى لعوب،مشغول بالتفاصيل الدافئة البسيطة ( أبعثر بصرى فى جميع الأرجاء ،كلبان يتشاجران،بطة تنقض على صرصور،الظل يأخذ شكلا متعرجا على الحائط ،أرى رجلا بلا ذراعين) عالمان يتشكلان،كل منهما يغذي الآخر ويدعم وجوده.  
الحقيقة.. أن البعد الجمالي في القصة كلها يتولد عبر هذه العلاقة المركبة، فظاهر السرد يقول أن لكل من الأم والطفل عالمه الخاص ـ عالم الكدح والتعب وعالم الخيال واللعب ـ وحركة السرد تتردد بين هذين الإيقاعين ليمنحنا السرد تلك الطاقة الشاعرية،غير أن الإيقاعين لا يمثلان أبدًا ثنائية ضدية،بل هما فى حالة من الاشتباك الحميمي،انهما معا فى (مركب واحد)،فى أزمة واحدة وواقع واحد،ومن ثم لا ظل للصراع الذى نراه عادة  فى القصص التي تقوم نمط المفارقة. والطريف أن القصة تنتهي بالفعل في تلك اللحظة التي يبدأ فيها الصراع،تمامًا كما بدأت فى لحظة المواجهة القدرية مع الموت فى نهاية القصة،فقط ستسمع أصواتا مبهمة تخرج من بين خشخشات أعواد الذرة لتجر الأم بقوة وتختفى،وكأننا أمام نقطة انطلاق جديدة لقصة.
هكذا منح عبد الحكم السرد صوتا شعريا، سواء باختياره لحظات مفعمة بالشعور،أو بتباين مستوى السرد بين أكثر من إيقاع نفسي ودلالي، لكن نصوصه لم تفارق التشكيل السردي إلى غنائية لغوية، وهو ملمح يتردد كثيرًا في القص، بوصفه استجداء مبتذلاً لمشاعر القراء، ظنا أنه أكثر تشبها بالشعر، غير أن الشعر في ظني، ليس ترتيلا لغويا، بل هو رؤية، محملة بطاقة شعورية، مثل هذا  الذى وجدناه عند عبد الحكم، عندما ينطلق من الشعور ويتوسط بلغة محتشدة بالتفاصيل الحية، بحيث يمكن للحكاية نفسها، أن تصبح شعرا، على نحو ما رأينا.
1 ـ تُنتج  الحكاية، بين الشخصيات، وعبر علاقات الزمان والمكان، لتمنح السرد هويته، إنها البذور الأولى للحكاية.
2 ـ تتحرك هذه البذور فى كل مستويات السرد بطاقة حسية، تجعلها تنأى عن التجريد والذهنية.
ومن هنا.. فعبد الحكم قد وضع حدودا آمنة ومستقرة لتجربته القصصية، ولا  يغامر بتجاوز هذه الحدود إلى تخوم أخرى، فقد امتلك معطيات القص، واستفاد منها استفادة جيدة، وراح يتحرك طوال الوقت بين هذه الحدود الآمنة، تؤازره مجموعة من القناعات الفنية، تبلغ درجة من درجات اليقين والسيطرة، وهذا يمنحه فرصة التجويد والزخرفة، أو الحفر العميق ـ ربما ـ فى نقطة واحدة، وهو ما يمكن وصفه بالحركة الرأسية للسرد، التي هي خصيصة شديو الأهمية في القصة القصيرة، بحيث تمنحها هويتها، وتميزها عن أشكال السرد الأخرى.
 مجتزأ من دراسة تحت عنوان ( من نمط المفارقة إلى مفارقة النمط ))، نشرت فى كتاب أبحاث مؤتمر أدباء مصر 2003م بالمنيا.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد عبد الحكم حسن .
عضو اتحاد كتاب مصر
محافظة المنيا .. مركز المنيا  .. قرية مهدية
الأعمال المطبوعة :
لحظة سقوط الجسد  ...... مجموعة قصصية .                                                                  
 بستان أبى الهوى ....... رواية .
مجلس القمري ........... رواية .
سر ...................... رواية .
طلب صداقة ............. رواية .
المجانين على أبواب المدينة .. مجموعة قصصية
الجوائز :
جائزة أخبار الأدب للقصة القصيرة1999 .
جائزة نجلاء محرم للقصة القصيرة 2002
جائزة إحسان عبد القدوس للرواية ... المركز الأول عن رواية ( مجلس القمري )
جائزة أفضل رواية من هيئة قصور الثقافة عن رواية ( سر )
جائزة اتحاد كتاب مصر عن رواية "طلب صداقة"
تم اختيار رواية (بستان أبي الهوى) ضمن أفضل الروايات الصادرة في الوطن العربي في السنوات الأخيرة .. ستترجم إلى ثلاث لغات .
جائزة الثقافة لأعوام عديدة .
تُرجم له إلى الإنجليزية  .. وتناول أعماله معظم النقاد والمبدعين .. كما نشرت أعماله في معظم الدوريات الأدبية والصحف والمجلات وتعد عن أعماله  رسائل جامعية .بدأ نشر قصصه فى مجلة القصة سنة 1990 والثقافة الجديدة 1991.
ت / 01156849896



تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في سبتمبر 08, 2018 تقييم: 5

هناك 3 تعليقات:

  1. خالص الشكر لحضرتك الناقد والمبدع سيد الوكيل لما أولييته لى من عناية تدفع بى للأمام وتحفزنى على مواصلة الكتابة .. وهذا عهدنا بك محبا ومخلصا لهذا الفن ولمريديك ..

    ردحذف
  2. صحيح أن الكاتب الجميل محمد عبد الحكم فى قصته هذه ( الظلام وحده لا يحجب الرؤية ) لم تفارق التشكيل السردي فى مشهديتها إلى غنائية لغوية ، لاستجداء التعاطف ، بل جاءت النهاية هى المفاجأة التى يمكنها صناعة هذا التعاطف على الفور ، مع قسوتها وكأن القصة كتبت من أجل هذه النهاية .. تحياتى للجميع ..

    ردحذف
    الردود
    1. أستاذى المبدع الجميل محسن يونس .. دائما تتشملنا عنايتك وتسعدنا رؤيتك .. دمت بكل الخير .. ولحضرتك خالص الشكر

      حذف