Powered By Blogger



النــحيــب


( تفصيلات دقيقة من حياة الجندي عبدالمجيد الجنزوري ).
بقلم : سمير الفيل
ـ " مات عبدالمجيد الجنزوري ! "
حشر جسده النحيل في الوصلة بين عربتي القطار ، وعندما جذب السائق يد الفرملة ، واصطكت العربات هوى في غمضة عين بين القضبان وحبات الحصى والزلط . ارتطم الرأس بساق معدنية ناتئة ، وسال الدم قطرات قطرات.
* يا أماسي الخوف والفزع . همهمات خائفة وليل مدنس برائحة البارود . أفتح عيني وأغمضها على ليل متسع ، ونظارتي الطبية بعدساتها الغليظة في الليل لا تكشف أسراره ، والنجوم التي تساقطت في داخلي أضاءت أحزاني الموحشة . لها وميض صرت آلفه .
ـ  " يا دفعة . أحضر الأروانة ! "
تسرع أقدامه على المدق الجيري الذي تحوطه حقول ألغام ، من كل جانب ، وتمرق على الضوء المفضض سحالي تختبيء بين أوراق نباتات الصبار الذابلة ، وخنافس سوداء ملتصقة بحفرها . يعدو بخطواته الثقيلة على حصى المدق حاملا تعيين السرية ، واضعا بندقيته الآلية على صدره لتتقاطع ونظارة الميدان التي نزع غطاءها.
ـ  " كلوا .. بالهناء والعافية ! " 
* قطع العدو خطوط الإمداد ، تناثرت الشظايا ، وحفرت إحداها في صدري جراحا صارت ندوبا لا تندمل . حين يولد الفجر أثبت بندقيني الآلية في تجويف الكتف . ألصق الخد بنعومة الخشب المصقول . أكتم انتظاري ، وانتظر إطلالة رأس جهة المزغل.
يشير ناحية الشرق ثم يخرج من خوذته خطابها الأخير يتسلل منه العطر ووعود . القبو المظلم ، والخدمة أمام ملاجيء القادة . صوت المذياع المكتوم في الحفرة العميقة ، وبصيص الضوء ، والنكات الممرورة ، والملل الزاحف على المكان . يستند برشاشه الخفيف على حافة الخندق ، فتتهاوى كتل الرمال على ركبته المتصلبة .
ـ "  سيدي الملازم . أورنيك عيادة إلى  " القصاصين" . أتسمح بالموافقة" ؟
القفز في العربة " جاز" بين صناديق الذخيرة الخالية . مشاهدة الفتيات بأعين ذاهلة ، وشراء أقراص الطعمية الساخنة ، والعودة بها ليلا باردة كالثلج ، ورواية الفيلم الذي شاهده في سينما الجلاء بأدق تفاصيله.
ـ " قبـّـلها البطل قبلة استمرت ساعتين!"
ـ " ساعتين؟! "
ـ " بل ساعة ، ونحن صفرنا ، وضربنا المقاعد بالأكف ، واللعين قطع المشهد" !
شهقة الحرمان ، والوجوه المتصلبة ، والليل فارس يمتطي الملل ويهجم على المواقع ، فيقابله رجال " الكينجي " و" الشينجي " . تلك نوبات الحراسة الليلية ، والصول توفيق يخرج في البرد ملتفعا بضلع " الهايك" يقضي حاجته ، ويتنحنح.
ـ  " خدمة السلاح. خدمة الذخيرة . خدمة التعيين " !
تتردد الصيحات نافضة الدفء وإغراء النوم ، والسرحان في الأحبة.
* خريطة سيناء تشير إليها بإصبعك المبتور . قذفوك في قلب الجندية برغم العيب الظاهر . رفضت أن تبوح لهم بسبب يعفيك من الانخراط في طوابير التمام ، والزحف تحت الأسلاك الشائكة ، وظمأ التدريب . من العيب أن تعود إلى القرية دون أن تضع الكاكي فوق جسدك . لو رجعت لتقولت الألسنة ، واتهموك بنقائص الدنيا.
ـ "عيب يا فتحي أن تسرق جرايتي  " !
حين أشار القائد ناحية الشرق ، بكى ، احتضن الرجال وبكى . قذف بنفسه إلى القارب . تحسس بيده نعومة المطاط في استدارته . تذكر لحظتها طوقه الذي كان يسير به طفلا في الأزقة . كان الدمع بلا خجل على وجنتيه .
ـ " خسائر الأمس ثمانية شهداء . دفنوا في بطن التبة" !
تلك معاركنا الصغيرة . كانت المعركة الكبرى ترتسم في الأفق لكن متى تأتي الرءوس منحسرة . حيث يكون الجلوس في الليالي المقمرة حول برادات الشاي وإخفاء بصابيص النار في الحفر ، بخوذة قديمة مقلوبة .
ـ " الانتظار خيانة ".
ـ حرب الاستنزاف بداية يا فتحي  " !
ـ " لعن الله صمتنا . أريد أن أراهم . اللحظة " .
تسبح في الليل العميق ، وتقذف على امتداد ذراعيك تلك القنابل اليدوية ، وتخفض الرأس. تدفنها في سكون المفاجأة . تكز على أسنانك ، والأرض تهتز من تحتك : تك.. تك.. تك.
دفعات متلاحقة من " أبي جاموس " على الموقع في الغرب . صممت أن تنتزع يافطة صفراء بحروف عبرية مربعة . قصصت السلك المثبت في الأعمدة الحديدية ، وبكوريك الفرد ظللت تنبش في الأرض لتحضر عظام شهيد دفن في حرب ماضية . كانت العلامة لا تخطئها عين : خوذة وعصا رفيعة.
ـ " الفاتحة على روحه ، يا رجالة  "  !
ضمخنا عطر الاستشهاد ، والعودة ، والارتماء في أحضان الرفاق.
تلك اللمسات وخفقان القلب ، وابتسامة دبغتها الشمس . استند بمرفقيه على باب المقهى . كانت المذيعة في التلفزيون أمامه تبتسم ابتسامتها العريضة ، وتفرد بيدها الثوب المطرز بالدانتيلا . لمحته يزرر سترته ، وحفيف حزن لا تخفيه كلماته المقتضبة .
ـ " لم يروا الكاكي  " !
تتخشب أصابعه على قطعة الألمونيوم المثقوبة باسمه الثلاثي وديانته وفصيلة دمه . أوغلت الكآبة ، وعصفت بروحه المستسلمة : " أمام القطار ساعتان " .
طاردنا صوت المذيعة الناعم يتسلل خفية من الباب المطلي بالأزرق : " قلوبنا معهم . أبناء مصر على الجبهة " .
ضحك فجأة ، ثم اتسعت ضحكته حتى أنه استلقى على الطوار ، وأنا لا أفهم . نظر إلى معتذرا : " قلوبهم فقط " !
في معسكر تدريب المعادي ، وقبل الحضور إلى الجبهة . فرحة الحصول على تصريح من " القشلاق" . الحذاء اللامع والوجه المصقول .
قال لي في تردد أنه يجد متعة في السير بين المقابر . الصمت الخاشع ولسعة البرد ، والشواهد الرخامية تجاوز الأبنية المقوسة التي تتناثر فوقها أوراق السعف الخضر . الممرات المعشوشبة مغسولة بمطر حزين . تستوقفنا يد امرأة . ومضات من انكسار . تلوح الأيدي بالتصريح والرقم الكودي في الخاتم الأسود المستدير .
ـ " هيا نجلس في المقهى" !
في صدره أمنيات آفلة . يمسك جوزة المعسل . يمد يده . يعرف أنني لا أدخن . على مشارف " أبي صوير" وقفت سيارة جيب ، وقفز منها الصول  توفيق . رأيناه يتلفت حوله ، وهو يقايض البطيخ ، ويلح ليعطيه البائع قفصي شمام بصفيحة بنزين.
لكزني الجنزوري في صدري ، وسبه سبابا متواصلا . ود أن يهجم عليه في تلك اللحظة متلبسا بجريمته لكنه أصفر ، كثعبان ، يخلص نفسه من جرائمه الصغيرة كالشعرة من العجين.
في بطن التبة زحفنا ، وضربنا النار في فايد ، وعندما خلصت الذخيرة خبأ عبدالمجيد عدة طلقات في خزاناته الأربع . دخل علينا الصول توفيق الملجأ في نوبة تفتيش مفاجئة . تلون وجهه . أخرج بأصابعه الرصاصات . صفع الجنزوري وظنه يسكت ، فرد الصفعة صفعتين.
ـ " دور مكتب يا صول توفيق" !
ـ " هل دخلت السجن يا فرج ؟ حلق شعر الرأس " زيرو" ، وامتهان الكرامة " ! ؟
ـ  " سم نفسك .. باسم امرأة . أسرع " !
بقبضة يده لكمه . نز الدم من بين أسنانه . ارتمى على أرض السجن متخاذلا . تكوموا في الأركان . مد أحدهم يده المرتعشة بسيجارة " كليوباترا" : " خذ دخن. روق دمك" !
ركله بحذائه . قبل أن يدفعوه إلى المكان ، كانوا قد انتزعوا منه قايش الوسط وغطاء الرأس : " لابأس " !
الحرس بالخارج ، وألواح الصاج المتعرجة . وقف فوق رأس زعيمهم . فمه يغمغم بكلمات منكسرة : " لم أقصد . تقاليد السجن " !
أقعى يمسح خيط الدم : " لا تبك . ألست رجلا" ؟!
احتضنني وقبلني ،. ساعتها شعرت بلزوجة الدم على جبهتي .
* حين حملتنا قوارب المطاط ، غاصت أقدامنا في رمال ملتهبة ، وحلق الموت فوق الرقاب . رأينا توفيق يخفي في المؤخرة جركن ماء . ضربناه بقبضاتنا . لم يفتح فمه . وزعناه على الزمزميات ، وحين امتدت الأيام وحاصرتنا المدرعات على التبة حفرنا بأظفارنا في الرمال بحثا عن ندعة ماء : "يا أم هاشم .. يا أم هاشم" !
حدثني عن هجرته من القرية إلى المدينة . صعدت معه ممسكا الدرابزين إلى غرفته فوق السطوح . قابلتنا الأم بجلبابها الأسود الممزق من كتفه " ضبة ومفتاح" . احتضنته . شدت على يدي . قدمت لنا الشاي في أكواب زجاجية رخيصة . في تلك الغرفة قابلت " أسماء " .
كانت تفتح كتابها وتذاكر على لمبة جاز نمرة عشرة ، والنمش الخفيف بوجهها خطف قلبي ، وابتسامتها الطفولية . بجرأة لا أملكها ضغطت على يدها . ضحكت . أخفت وجهها خلف الصفحات . ظلت تتلصص على الحديث الدائر: " الكيمياء صعبة " .  . قلت : " يمكنني أن أساعدك " !
زغر لي بعينه ، وكانت الدجاجات التي تربيها أمه في السطح تقفز وتكاكي ، وديك له ريش ملون فرد جناحه على استقامته ، وظل يدور حول نفسه ، ثم قفز في الهواء ، وسكن.
قامت ترقيه بالشبة والفاسوخ ، ثم راحت ترقي المكان . ترمي رأسه بحبات الأرز والملح ، وكلماتها المنغومة تدهشني : " قل إلهي يشفيك .. من كل داء فيك.. والله يجازيك .. من ضربة عينيك .. يا حاسد " .
بحة حزينة تختفي في نبرة الصوت . نثرثر في المساء ، وتنتهي الإجازة الميدانية فيتلاشى الفرح ونهيم في أحزان خشنة لا نهاية لها .
* تفرس في وجهي وهو يعدل بيده عمود التصويب في انحدار التبة . ترجمه ذرات الرمال الناعمة ، وننوء بأثقال يقظة تتواصل بلا نوم . ترف ابتسامته الشاحبة ، فأقول : " كل شدة تزول ، وكل حرب تنتهي " !
أوغلت الكآبة في نفسه وعصفت بروحه . كان لا يريد العودة إلا وقد سوى حساباته : " أريد أن أشفي قلبي من هذا الوجع " !
أخضلت عيناه بدموع انحبست لأيام وليال . زارنا فيها الموت والجرح والدم المنثال. كانت خوذته تخفي حاجبيه . أتامل أصابعه التي تقبض على الرمل . تقذفه في كومات متتالية : " أريد أن يشربوا من نفس الكأس الحنظل " !
كنت أهزه من كتفيه : " لقد أوقعنا بهم الهزيمة " .
فيرد عليّ حزيـــنا : " لا أريد أن آخذ ثأري بطلقة أو شظية . أريد أن أخنق بيدي عنق واحد منهم" !
ولما سمعه الرفاق في الخندق يكررها أسموه " الخنـّـاق " ، وحين تقدمت الحرب ، وقمنا بتطوير الهجوم على المحور الأوسط ، أصبنا دبابة " سنتريون" ، وتساقط الأفراد بين أيدينا ، وكاد يفعلها مع أحدهم لولا صيحة القائد.
* توقفت الحرب فجأة ، وعاد ابراهيم بساق مكسورة ، ورجعت السرية وقد فقدت أربعة شهداء . كانت زرقة القناة خلفنا على البعد ، وأمامنا تمرق مجنزراتهم وجلة كالخنافس الحذرة . كانت قبضته تضرب في غيظ خوذته التي خلعها . بحثت يده في الجرابندية عن متعلقات الشهيد " مدحت أبوعبده" . قبض عليها في أسى . شعرت بما يختلج به قلبه من مشاعر. شددت على يده . وخز في قلبي . طموحات تعبى : " الحرب لم تنته . لنا عودة " !
* الضوء الكابي يسقط على الشوارع . يصفر بفمه لحنا يعجبه . سترته مفتوحة تبرز شعر صدره الفاحم . ينظر إلى ساعة يده . يكمل لحنه في خفوت . الشارع الخالي من المارة . أصاحبه في الإجازة الأخيرة . يمسكني من كتفيّ ويضغطهما : " أتحب أسماء يا ولد " !
وشيش الوابور وهي تعد الشاي . الأم مريضة . تسند رأسها على ثوب قديم طوته . تسعل في انتظام . أبص إليها خلسة . تلوح لي بيدها . تأتي لتجلس في ركنها بعيدا . تبتسم لحكاياتنا الأسيانة . يقول عبدالمجيد بلا مناسبة ، وهو يرشف من كوب الشــاي : " في الحرب يا أامي .. شربنا بولنا " !
تدفن أسماء وجهها الخجل في كراستها . أضيف : " وأكلنا الخبز العفن" !
تضرب الأم صدرها بيدها ، وهي لا تفهم إلا بصعوبة أن الحرب توقظ في الإنسان غريزة البقاء بأي صورة. تصك أسماعنا خبطات بائع اللبن " الحليب " ، وهو يوزع اللبن على الأدوار التي إلى أسفل ، ولا يصعد إلى غرفة السطــــــوح ، وهو يدندن بصوته الرفيع : " خلي السلاح صاحي " .
* سرحت من الجيش بعد الحرب بأشهر قلائل ، وبقي عبدالمجيد الجنزوري ، يكمل مدة الثلاث سنوات . أقابله خلال إجازته : " أصبر . كلها أيام وتعود إلى ورشتك " !
آخر مرة زرته ، صمم أن يصحبني ليريني تلك الورشة في " حارة البركة " .
فتح المزلاج الصديء . أجلسني على المقعد الخيزران المتهالك . أراني " أزاميل " متعددة الأشكال والأحجام . أقسم أن يهديني حجرة صالون من صنع يده عندما أتزوج . غمز بعينه ، وصدى شكوكه تحاصرني : " أنفرح بك قريبا" ؟
كنت قد صممت على ألا أفاتحه في الأمر إلا بعد أن أجهز المال اللازم . أبصرت في شق بالسقف برصا يطل برأسه ، ويهز ذنبه . كان وجهه شاحبا ـ هذه المرة ـ على غير العادة . عبق المكان برائحة عطنة . كز على أسنانه : " آه من وقف الحال " .
كان يقولها من أعماقه بأسى وحزن ، فأخرجت من حافظة نقودي مبلغا من المال . شتمني وأشاح بوجهه غاضبا : " أنا لا أشحذ . عبدالمجيد أسطى يا ولد " !
* أعرف أن الدواء الذي يشتريه لأمه يحتاج إلى مال لا يمكنه تدبيره ، وأن أسماء تحتاج إلى كتب وأقلام . علمت منها حين قابلتها مصادفة في شارع " النصر " أنه قد باع " عدة " الشغل ، ولم يرض أن يمد يده لأحد!
* قال المحقق وهو يغلق ملف قضية موت عبدالمجيد الجنزوري : " إن الحادث قد وقع قضاء وقدرا ، بدافع حرص المجني عليه ـ رقم عسكري 145672 رتبة عريف عبدالمجيد السيد الجنزوري ـ على عدم دفع قيمة تذكرة القطار ، مما جعله يعرض نفسه للخطر بالركوب بين وصلتي القطار ، والارتكاز بالبيادة على الأكصدامات ، فاختل توازنه ، وقضى نحبه .. " .
تنبثق في صدري كل أحزان العالم . أتملى الكلمات فتخذلني . الغصة تملأ حلقي . أخطو كالمنوم ، وأطرق بأقدامي الواهنة أسفلت الشارع . أضواء النيون تزغلل نظري ، وأشجار الكافور على الطوار مطرقة في أسى . أقترب من النهر ، وأهبط الدرجات الحجرية . أدلي يدي في تيار الماء البارد . أبكي الرحيل الغادر. وأنصت لكأن النهر يشاركني النحيب.
1985
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت بمجلة" النصر" العدد 650 ، فبراير 1986.






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإنسانية المهدرة في نص " النحيب" لسمير الفيل .
بقلم : منال الرويني .
يعتبر سمير الفيل واحدا من رواد الكتابة عن الحرب أو ما يعرف بأدب الحرب ، فقد قدم أعمالا مائزة جدا في هذا الصدد ، و هو يتعامل مع الشخصية كإنسان بغض النظر عن أي شيء آخر ، فيسلط  الضوء على حياتها الشخصية  خارج إطار حياة الجندية في الجيش ، ووقت الحرب.  و قد ظهر ذلك جليا في قصة (النحيب ) و التي يتسق عنوانها تماما مع كل عناصر القصة المتضافرة لخدمة النص.
يبدأ الكاتب قصته من النهاية صادما القارئ بإعلانه عن الحدث المحوري ، و هو موت البطل ( مات عبد المجيد الجنزورى )  و هي ليست ميتة عادية ، بل ميتة قاسية للغاية حيث أنه قد سقط من بين الوصلة التي تربط بين عربتي القطار  لأنه لم يجد ثمن التذكرة .
- هكذا أعلن الراوي العليم ، و هو صديقه و زميله في الجيش ( الجندي فتحي ) ، ثم تمضى ذاكرته في تداعى الصور و رصد المشاهدات التي تجسد حياة الجندية بكل ما فيها من خشونة وتعسف ، ما بين المواقع و الثكنات كفضاء مكاني أساسي ، و حياته الشخصية كإنسان فقير مهمش في تداخلات متشابكة من التداعي الحر.
تتبدى معاناة الجنود أثناء الحرب بمنتهى الصدق الفني الذى اعتمده الكاتب لإيصال فكرته الأساسية ....( الانخراط في طوابير التمام ، شهقة الحرمان ، شربنا بولنا ، النكات الممرورة ، الزحف تحت الأسلاك الشائكة  ) ، كما تجلت  معاناتهم في الحياة أيضا .. (  في صدره أمنيات آفلة -  آه من وقف الحال -  أعرف أن الدواء الذى يشتريه لأمه يحتاج إلى مال لا يمكنه تدبيره )..
و مع ذلك فأنفس الجنود مترعة بالمشاعر الحماسية لتحقيق النصر ، و إلحاق الهزيمة بالعدو ....( أريد أن أشفى غليلي من هذا الوجع  - أن يشربوا من نفس الكأس  - لقد أوقعنا الهزيمة بهم  ) .
لم يغفل الكاتب أن تلك الشخصيات من لحم و دم ، وأنها تتوق للحياة الطبيعية كأي انسان ؛ فهي تبحث عن الحب في ظل الظروف القاسية ، و تتعلق به كخيط من النور و شعاع للأمل ...( أتحب أسماء يا ولد  ؟ -  النمش الخفيف بوجهها خطف قلبي ... ) .
هكذا برع سمير الفيل في تصوير تلك الحياة من جوانبها المتعددة بمصداقية شديدة  ، تجعله دائما يصيبك بالدهشة ، كما انه يكسر توقعاتك كقارئ ، فتمضى سائرا في طرائقه السردية المتكسرة والمتشابكة في أكثر من اتجاه ، بشغف حقيقي .
و إذا كان الزمن المتقطع في القصة ، و الذى يتجلى في تداعيات ذاكرة الراوي  ، أحد العناصر الهامة في بناء المتن القصصي  وحمل عناصره ، فإن الفضاء المكاني أيضا يبدو فاعلا في رصد الواقع المعيش ، و رسم الجو العام للقصة  ، كما كان فاعلا في إبراز الحالة النفسية للشخوص  فنجد مثلا :
- ( لكأن النهر يشاركنى النحيب ) .
- ( أشجار الكافور مطرقة فى أسى ) .
- ( الملل الزاحف على المكان) .
فالمكان و الأشياء المختلفة ، وعناصر الطبيعة كافة ، تتجاوب مع نفسية الشخصيات كأنها تشعر بها ، وتشاركها المعاناة  . 
بهذا يتضح لنا تضافر جميع عناصر القصة من زمان و مكان و حبكة و حدث و شخصيات لإيصال الشعور بالتعاطف مع البطل الذى لم يمت في أرض المعركة ، كما هو متوقع من جندي مقاتل ، بل بين وصلة عربتي القطار ، و هو عائد الى أهله الفقراء في نهاية مأساوية يؤكدها  دلالة عنوان القصة  ( النحيب) .
 إنه رفع الصوت بالبكاء ، وبقدر من القهر المميت والشعور بالمحنة ، والإحساس المتزايد بكون الدنيا قد تخلت عن صديقه فسقط قتيل ظروف الواقع المحبطة ، أعتقد أن هذه الخاتمة ـ على ما تحمله من خطاب شديد القسوة ـ تتسق مع فكر الكاتب في الانحياز للشرائح البسيطة في مجتمعنا المصري زمن الحرب وأزمنة اللاحرب ، على حد سواء ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في أكتوبر 10, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: