الحلم رقم 104
من أحلام فترة
النقاهة
" رأيتني
في حي العباسية أتجول في رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت
بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتي عند السبيل، وهناك رحبتُ بها بقلب مشوق، واقترحت
عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الأول. وعندما بلغنا المقهى خف إلينا
المرحوم المعلم القديم، ورحب بنا، غير أنه عتب علي المرحومة عين طول غيابها، فقالت
إن الذي منعها عن الحضور الموت، فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع
أن يفرق بين الأحبة."
______________________________________
رؤية نقدية :
سيد الوكيل
الست عين هي
الشخصية الرئيسة في رواية (عصر الحب- 1980م) ويقدمها محفوظ في مفتتح الرواية، فيصفها
امرأةً قويةً، لا حدود لإمكانياتها. وعلى الرغم من أن الرواية قصيرة ومكثفة، أو
ربما هي قصة طويلة لم يتوقف النقاد أمامها، إلا أنه استدعاها من جديد في الأحلام.
ربما ليضعها في فضاء أكثر تكثيفًا واحتشادًا بالرموز. وكأنما ثمة شيء لم يُشبع في
الرواية، أراد التركيز عليه هنا. أو كأن ذكراً عابرًا في الرواية، أراد اختباره
وتأكيده بعد كل هذه السنين التي مرت على عصر الحب.
كان موت الست
عين في الرواية ملتبسًا بواقعة غريبة. ففي ليلة القدر دب في جسدها العجوز الواهن
نشاط مفاجئ، وراحت تغني بصوت ضعيف ولكنه مثير (يمامة حلوة.. ومنين أجيبها) ثم
هتفت: إني أرى الذين ذهبوا ينادونني .. سمعًا وطاعة.. عين قادمة.(15)
عين قادمة: كانت هذه آخر جملة في الرواية، قبل
أن يعقب الراوي بالقول إن الست عين لم تمت. هكذا تذكرنا الست عين بعاشور الناجي،
ونتوقع ظهورها من جديد، لكنها تظهر في عمل آخر، مختلف، ويفارق زمن كتابة (عصر
الحب) بربع قرن تقريبًا. وكأن ثمة استباق في وعي نجيب بحركة الشخصية في الزمن، ومن
ثم إمكانية تتبع صفحات جديدة من حياتها على نحو ما يقول عيسى عبيد.
فهل ذهبت للحياة في مكان آخر؟ وما هو؟ هل هو
عالم الأحلام؟
ومن هم الذين ينادونها؟ هل من بينهم (محفوظ)
الذي استقبلها في حلمه بقلب مشوق؟ كيف يمكن فهم هذا الارتباط الوثيق في الوعي
بالزمن بين عملين كتبا في زمنين متباعدين؟ هل هو استباق في الزمن؟ وكأن محفوظًا
وقت كتابته للرواية، يستشعر إنه سيعود للنظر إليها في نص آخر.
أم هو الشوق الذي عاش في قلب محفوظ؟ فراح يخفق
بشخصياته التي خلقها. ثم أسكنها جنة الأحلام، حيث الموت لا يستطيع أن يفرق بين
الأحبة. هكذا يبدو الحلم يوتوبيا، ونبوءة بحياة أبدية لا يموت فيها المؤلف ولا
شخصياته.
كأن الحلم، يجيب عن السؤال الذي شغل سكان الحارة
عما إذا كانت الست عين ماتت أم لا. الست عين لا تعرف الحدود حقًا، يمكنها أن تقهر
الموت، وتؤسس عصر الحب في مكان آخر بلا شيخوخة أو مرض، مكان حاضر أبدًا وبلا غياب.
مكان يتأهب له نجيب محفوظ في شيخوخته وبحضور المعلم القديم. محفوظ يكتب الأحلام،
ويلتقي فيها بالمحبين الذين ينتظرونه في أماكنهم الحبيبة إلى قلبه. وظني أن السؤال
عما إذا كانت هذه الشخصيات حقيقية أم من وحي خيالة كالشخصيات الروائية، هو سؤال
عبثي، ففي الأحلام تتلاشى المسافة بين الذاتي والموضوعي.
على مستوى
تقني، يستحضر نجيب محفوظ الراوي الشعبي ليصبح شخصية مضمرة في عصر الحب، الراوي
الشعبي يكشف لنا عن البعد الأسطوري في حياة الست عين ومماتها. يستطيع الراوي
الشعبي أن يحكي عن عوالم الغيب، إنه لا يخضع لقوانين الواقع، ولا لقوانين السرد
ومنطقه، ولا لقوانين الزمان والمكان، فالنص الشعبي، هو نص جمعي، مرجعه الوجدان،
ومادته المخيلة. إنه مثل الست عين بلا حدود، لأنه صوت الزمن الهامس في الضمير
الجمعي. إنه يمثل المعنى الأسطوري المفارق للواقع المعاش، الواقع المنشغل بهموم
الحياة اليومية. واقع الأسطورة قديم وغامض، موجود وسارٍ في التاريخ الإنساني
كجينات يمكنها أن تتحور ولكنها لا تموت، بهذا المعنى حصلت الست عين على أكسير
الحياة، الذي فشل (جلال صاحب الجلالة) في الحرافيش أن يحصل عليه. لننظر كيف يعرّف
لنا محفوظ الراوي الشعبي في عصر الحب: "لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة،
تحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات، يحدوها ولع بالحكمة والموعظة وتستأسرها
عواطف الفرح والأحزان، ووجدان مأساوي دفين، وعذوبة أحلام يعتقد أنها تحققت ذات
يوم. إنه في الواقع تراث منسوج من تاريخ ملائكي ينبع صدقه من درجة حرارته وعمق
أشواقه، ويتجسد بفضل خيال أمين يهفو إلى غزو الفضاء رغم تعثر قدميه فوق
الأرض.." (16)
في الشاهد
السابق ينبغي ألا يشغلنا جمال اللغة وتحليقها المجازي عن المعنى الإيماني الذي
يمنح الإنسان اليقين بتحقيق المعجزات.. إنه غامض وغير متعين، ولكنه نسيج قوي من
تاريخ ملائكي صادق، ومهما تجاهلناه يلح ويهفو ويعاود الظهور ليصبح تمثيلاً حيويًا
لأسطورة العود الأبدي، حيث لا شيء يموت. ربما نحتاج أن نلتفت أكثر إلى الثقل
القدري الذي يعانيه الإنسان في واقعه المعاش، ومن ثم تأتي فكرة العود الأبدي كما
وصفها نيتشه، بمثابة وعد بالخلود، تعويض نفسي للإنسان عن معاناته في الواقع. ما لا
يمكن تحقيقه في الواقع، يمكن تحقيقه في الحكايات والأساطير والأحلام، أنفاقنا
السرية المؤدية للخلود، وعبر شبكة الأنفاق السرية تلك، تتواصل شخصيات نجيب محفوظ،
وتتنقل من قصة إلى رواية إلى حلم. حيث لا سلطة للموت ولا يمكنه أن يفرق بين
المحبين.
إن حكاية الست
عين ليست مجرد حكاية عابرة، ولكنها المعنى الأعمق للوجود الإنساني، رعب العدم،
وحلم الخلود، فلا بد من شيء يفسر وجودنا، لا بد من أن يأتي جودو.
الحلم رقم 104 من "أحلام فترة النقاهة" - نجيب محفوظ
تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل
في
يوليو 21, 2018
تقييم:

ليست هناك تعليقات: