Powered By Blogger








الخــــــوف

قصة 

نجـــــــيب محــــــــفوظ





































  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
الخوف، نشرت ضمن مجموعة قصص ( فتوة العطوف)



قراءة نقدية لـ: ســـيد الوكيــــــل

الحكاية تبدأ من حارة (الفرغانة) وهي منطقة وسطى تقع بين حارتي: الحلوجي و دعبس.
الفرغانة!! هل يوحي اسم الحارة، بالخلاء الذي تبدأ منه و تنتهي إليه حكايات فتوات الحرافيش؟
 الفتوات الجدد يبدءون بانتصار على الفتوة القديم في الخلاء، وينتهون بانكسار على يد فتوة جديد في الخلاء أيضًا. ترى إلى أي معنى عبثي تأخذنا دلالة الخلاء بين الميلاد والموت عند نجيب محفوظ؟ وعليه، فهل حارة الفرغانة مجرد مكان فحسب، أم نشعر فيها بعمق الزمان، وبداية التكوين؟
 كان (جعران) هو فتوة حارة الحلوجي، وكان (الأعور) هو فتوة حارة دعبس، فيما كانت الفرغانة بلا فتوة، لهذا عانت الفرغانة وسكانها من صراعات (جعران، والأعور) لفرض سيطرتهما على الفرغانة الخالية من السلطة فيما هي تنعم بالجمال البري ممثلاً في نعيمة، وكانت مسرحًا لمعاركهما، والضحايا دائمًا هم سكان الفرغانة، حتى ظهرت (نعيمة) بائعة الكبدة، فأصبحت موضوعًا لصراعهما. نعيمة.. صبية جميلة ريانة القوام، فأثارت شهوة كل من جعران والأعور. لجمال نعيمة سلطة تثير غرائز الجسد، لكن جعران والأعور يدركان ألا سبيل إلى امتلاك الجمال بالعنف والقوة، فراحا يخطبان ودها ويتناوبان حمايتها من مشاكسات أهل الحارة، ويتوددان إلى أبيها الكفيف المغلوب على أمرة. وخلال هذه الفترة القصيرة نعمت حارة الفرغانة بالسلام ورعاية كل من جعران والأعور  كرامة لعيون نعيمة. لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ تقدم كل من: جعران والأعور، بطلب الزواج من نعيمة، فوقع الأب، ووقعت الحارة كلها في حيص بيص، لأن الرد بالموافقة على طلب واحد منهما، يعني رفض الآخر، الذي سوف يجعل من أهل الفرغانة هدفًا مباشرًا لغاراته.
في هذه الأثناء يظهر ضابط البوليس الشاب. وعد أهل الفرغانة أن يخلصهم من الفتوات إلى الأبد. لكن تاريخ أهل الحارة مع الخوف، جعلهم حذرين، متوجسين، فوقفوا يشاهدون الضابط الشاب وهو يصرع الفتوات واحدًا بعد الآخر، بلا حماس، ولا انحياز لأي من الطرفين، إنه ميراث الخوف.
 سيطر الضابط ليس على الفرغانة فحسب، بل على كل الأراضي المجاورة، حتى بلغت خلاء شبرا. إنه -مرة أخرى- انتصار سلطة شابة منظمة وممنهجة، على سلطة تقليدية، عشوائية، نبتت باللانتخاب الطبيعي، ثم شاخت بطغيان الزمن. فبدأ سكان الفرغانة يشعرون بالامتنان للضابط الشاب الذي خلصهم من الخوف. لكن الخوف هو قدر سكان الفرغانة.
 في خلاء شبرا، رأى الناس الضابط الشاب يختلي بنعيمة الجميلة. كانت قد وقعت في غرامه، كأي امرأة تبهرها القوة ويثيرها الشباب، حتى عندما اكتشفت استغلاله لجسدها، لم تتمكن من الخلاص منه. عانت نعيمة قهرًا مضاعفًا، بين ابتزاز الضابط لها، وغمزات وتلسينات أهل الفرغانة عليها. هنا ينبثق معنى جديد لسلطة قديمة، سلطة القيم والتقاليد الاجتماعية التي لم يجرؤ الفتوات أنفسهم على المساس بها، بل تظاهروا بحمايتها، وعقاب كل من يتجرأ بالخروج عليها، فحتى الفتوات يعرفون أن الخروج على قيم الجماعة الشعبية، يعني الخروج من الجماعة الشعبية نفسها. ففي رواية الحرافيش، بدأت نهاية الفتوة (حسونة السبع) عندما اخترق قوانين الجماعة الشعبية. 
ومن جديد يعود الخوف لحارة الفرغانة. وقفت الحارة عاجزة عن الدفاع عن قيمها، وبدلًا من مواجهة الضابط، وجهت غضبها نحو نعيمة. لنقرأ هذا الوصف البديع الذي يجسد المعنى المركب لمشاعر نعيمة بالخوف:" وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذي يطوقها والازدراء، وجعلت تتودد إلى هذا وذاك لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق. ولم تخش اعتداء عليها، وفتوة الفتوات قائم بمجلسه أمام النقطة، ولكنها عانت وحدة غريبة. ورفعت رأسها في استكبار ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة. ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة وتمسك بالتلابيب. وتسب وتلعن  وتصيح في وجه ضحيتها: أنا أشرف من أمك. وتربع الضابط على الكرسي الخيزران يدخن النارجيلة ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق وقد امتلأ جسمه وانتفخ كرشه وتجلت في عينيه نظرة متعالية، ولكن خمد حماسه حتى بدا أن نعيمة نفسها لم توقظ مشاعره، والذين لم ينسوا فضله رغم كل شيء تنهدوا قائلين: المكتوب مكتوب" 
هكذا، تتقلب القصة، بين معاني مختلفة للسلطة، لتؤكد المعنى العميق للخوف الذي يحكم الإنسان. وحيرته، بين آليات الترغيب والترهيب، التي تستخدمها كل السلطات. وتظل الجملة الأخيرة: المكتوب مكتوب. تعكس عجز الإنسان وتسليمه بقدره، وتحيل في نفس الوقت، إلى معنى ميتافيزيقي للسلطة، سنراه في رواية (قلب الليل) أكثر تركيزًا. فالتحرر من الخوف، لا يكون إلا بكسر وهم السلطة بالخروج عليها. كخروج جعفر الراوي على سلطة الجد في قلب الليل، أو خروج الحرافيش بالنبابيت، لمواجهة (حسونة السبع) ورجالة. أما قصة الخوف، فقد اكتفت بالنظر إلى معنى الخوف، وتأمله من زوايا عدة. نظرة مجهرية لفحص وتحليل معنى عميقًا في مسيرة الوجود الإنساني على الأرض ومرافقًا للطغيان. لننظر كيف ذبل شباب وجمال نعيمة تحت سطوة الخوف الذي يحاصرها في عيون سكان الفرغانة، كيف للجمال أن يحيا تحت الخوف!! يقول محفوظ:" لم تعد نعيمة تمكث في العطفة إلا أقصر وقت ممكن ثم تسرح في الأحياء ولا تعود إلا مع الليل. ولأنها دائمًا مكفهرة ومتوثبة للشجار، فقد قست ملامحها وبردت نظرتها وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة".  ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينهى محفوظ هذه القصة العجيبة بسطر مستقل عن الصمت كمظهر للخوف، وهو يصور الضابط في مجلس الفتوة، أمام النقطة، بكرشه المنتفخ، على الكرسي الخيزران، يدخن النارجيلة "وفي لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة في العطفة الخابية الضوء كسلسلة من الضحكات الساخرة". 
كان الخوف يضحك ويعربد بين جوانب الفرغانة.




تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في أغسطس 27, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: