Powered By Blogger

قصة "رائحة الأشجار" - منار حسن فتح الباب



رائحة الأشجار
قصة: منار حسن فتح الباب      


الفتاة لا تريد الأب أمامها لأن ضجيج الشارع يبدأ في الطنين بأذنها بينما يتحدث هو إليها فلا تصغى إليه فيغضب ويثور.. وحينما ينظر إليها لا يكمل القمر استدارته وتغلفه الغيوم.
من كثرة ما هاجمها هاجس الموت صارت تنظر في المرآة كثيراً ولا تدرى أهو أبوها أم كائن آخر ربما تجسد في حلم ما أو ظهر في قصيدة كتبتها فجراً وهى تمزق بعض شعرها وتقتلعه من جذوره.
تعيش قصائدها ويختلط الفجر بالمساء كل يوم ويتكرر كابوسها بسقوط ثلاثتهم في بالوعة مظلمة مستديرة وموتهم غرقاً.
"لأننا ثلاثة فلابد أنها مستديرة ومخيفة".. هكذا رددت الفتاة ولم يسمعها حفيف الشجر قبل انسياب أوراقه متموجة في الهواء متفتتة دون أن يثلمها الندى.
يستيقظ فجأة برأس كبير وجسد اقل.. من شدة ما حملق في موج البحر العام الماضي صار هكذا، ولم يعد له ظل.. يستيقظ فجأة كل يوم وهو لا يدرى أن الفجر زال، ولم يشعر بالمطر الذى تهاطل ليلة أمس كانت قطراته تشبه أثداء القطة الصامتة التي تكرر تسللها من النافذة المستطيلة المكسورة وتدحرجها نحو فراش الفتاة.
عند انسكاب القهوة كان يستيقظ ثم يتأمل أوراقه وهى تتطاير من فوق مكتبه.. خطواته الهادئة في طريقها نحو همسات الفتاة والأم عن مشاهد البحر وحكايات الفتاة العاطفية ثم تصمتان.
تغمض الأم عينيها وتمضى الفتاة للغوص في مهدها وقد تجمد جسدها، فيختلط الحلم بالموت والطنين الغامض.. تنام صباحاً وتمتلك الشوارع والليل بين حناياها، فتظهر جميلة في حلم الأم داخل مركبة أسطورية لزفاف مستحيل يجرها فيل من اليمين وفرس من اليسار.
"كان لابد للكون من يمين ويسار حتى أستطيع أن أفتح عيني وأرى الحلم".. يتعالى فيه أثاث الزوجية حتى يلمس عنق السماء ثم يسقط، وتنبعث ضحكات ساخرة مجهولة، وتقفز حشرات بطونها تشبه ظهورها وتتناثر أطراف فراشات ملونة وبذور زهور تشبه شعر امرأة متقصف.
تبتسم الفتاة وتبدو كأنها تبكي متألمة وتسيل الدموع من عيني الفيل سميكة كقشور الأسماك ويتعالى خرطومه منثنياً عدة مرات بينما تهطل الدموع أمطاراً زرقاء غزيرة من عيني الفرس وينحني ظهرها إلى الأبد، وتجف السماء.
توقفت الأمطار هذا العام، وازدادت الأرض في حديقة منزلهم عمقاً، وظل القمر يظهر في النهار، يدور زاحفاً نحو ظلال أرجوانية مريبة ثم يختفي فجأة.
كانت، بعد كل عام، تجمع بطاقات الزواج المذهبة ثم تمضى تلملم بعض قصاصات الطريق المهملة هائمة تقهقه محنية الظهر تبحث عن أمها ومنزلها.
"لو كنت تركتها نائمة لعثرت عليها الآن"..
مطأطأة الرأس.. تهزه بين الفنية والأخرى، مرتعدة الجسد، تلوح لها النافذة المكسورة، فتقترب ثم تغيب عن الوعي قليلاً فتبتعد وتتجمع من حول ساقيها – وقد بدتا كفرعي شجرة – حفر مستديرة.
لا تنظر الأم إلى الأب كثيراً لكنها ظلت تحدثه عن السماء التي تغطي ابنتها كي تحميها من الخوف والمجهول، لكن الليل كان يلون السماء كل يوم ويهبط نحو تربة الحلم وفراش الفتاة، ويسكت الحديث.
اجتمع الأب والأم في الغروب عند قطرة مطر وحيدة التصقت بالأرض كي تدفئها، يبحثان عن ابنتهم بعد ثلاثة أيام من غيابها.. ربما هبطت تحت أرض الحديقة الظامئة، ولهذا بدت مبتلة اليوم فقط بعد أن امتصت خلايا جسدها كما بدت الأشجار أكثر ازدهاراً.
الآن، اصعدي بجسد كبير ورأس أصغر.. لم تسمع الأرض ولا قطرة المطر شيئاً..
ارتفعت ظلال رمادية ثلاثة، فعلقت بين السماء والأرض ثم دهسها قمر لم يشاهد الناس مثله من قبل، على حين تعالى ترتيل ونشيج وغمغمة تشبه الحفيف.. وظهرت جثة قطة تفوح منها رائحة أشجار على ناصية المنزل(*).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة( القطار لا يصل إلى البحر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية،  2000)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 رؤية نقدية للدكتور : خالد عبد الغني.

في هذه القصة ماتت الفتاة قهرا، وروحها تسربت إلى قطة تزور المنزل بين حين وآخر ، وقد اختلطا معا ، وفي هذا المعنى ما يشير إلى الفانتازيا الكونية ذلك التيار الذي نشأ مع منتصف القرن العشرين تقريبا، وتتضمن الفانتازيا في مفهومها الواسع أعمالاً أدبية كثيرة تبدأ من الأساطير والملاحم القديمة والميثولوجيا، وتمتد لتشمل أعمالاً حديثة. ومن النقاد مَن يرى أن الفانتازيا جنس أدبي حديث مستقل تطور في النصف الثاني من القرن العشرين وحقق انتشاراً واسعاً في الأدب والسينما، ويتقاطع وأجناساً أدبيةً أخرى، مثل الملحمة والميثولوجيا والخيال العلمي وكتابات الرعب، لكنه مستقل عنه،ا وتتلخص الصفات المميزة للفانتازيا في إدراج العناصر الخيالية داخل إطار متماسك ذاتياً (متناسق بالداخل)، حيث يظل الإلهام النابع من الأساطير والفولكلور فكرة أساسية منسقة بداخل هذا الشكل، يمكن تحديد أي مكان لعنصر الخيال: فقد يكون مُخبأ، أو قد يتسرب إلى ما قد يبدو إطاراً لعالم حقيقي، كما يمكن أن ترسم الشخصيات في عالم باستخدام هذه العناصر، أو قد تتواجد كاملة في إطار لعالم خيالي، حيث تكون هذه العناصر جزءا من هذا العالم .   وإذا ما عدنا إلى تاريخ كتابة القصة وهو عام 1995 يتأكد لدينا أن الأديبة الشابة منار فتح الباب  يومذاك تعد من رواد ذلك النوع من الكتابة في جيل التسعينيات في ذلك الوقت إذ لم يكن شائعا هذا النوع من الكتابة كما هو الحال في أيامنا تلك، وهو نفس العالم الفانتازي الموجود فى مجموعتها الشعرية الأخيرة رجل وامرأة 2017.
 إنه عالم نفسى واسع مترامى الاطراف عميق،ركزت الأديبة على معالم الحلم والكابوس والتصوير الأسطوري لباقي الأحداث فتقول عن الفتاة وهي تصف حالتها  :"تعيش قصائدها ويختلط الفجر بالمساء كل يوم ويتكرر كابوسها بسقوط ثلاثتهم في بالوعة مظلمة مستديرة وموتهم غرقاً.، وفي مشهد آخر تقول عن الأم والطفلة معا :" تغمض الأم عينيها وتمضى الفتاة للغوص في مهدها وقد تجمد جسدها، فيختلط الحلم بالموت والطنين الغامض.. تنام صباحاً وتمتلك الشوارع والليل بين حناياها، فتظهر جميلة في حلم الأم داخل مركبة أسطورية لزفاف مستحيل يجرها فيل من اليمين وفرس من اليسار".
 إنه عالم الفانتازيا الساحر والأسطوري أيضا، ويرحب بالموت بديلا عن الحياة أحيانا ومرادفا للراحة الأبدية، ولكن يظل السؤال حول تجربة الموت وأشكال البعث المختلفة لدى الأديبة منار حسن فتح الباب قائما ؟. في ظل خطابها الإبداعي الذي يتكون من منظومة واحدة فلسفية من التأمل للبشر والكون ومصادر العيش والإحساس بالوحدة والكتابة بروح ودم ساخن لازماها طوال رحلتها الإبداعية.

\

تعريف بالكاتبة:
  
منار حسن فتح الباب كاتبة قصة قصيرة ورواية وشعر وناقدة أدبية من أبرز كتاب جيل التسعينيات، وكاتبة أدب اطفال وكاتبة مقال  وسينارست / فى المجال التسجيلى وكبير معدي قناة النيل الثقافية.
وتخرجت من جامعة وهران بالجزائر وحصلت على الماجستير من كلية الاداب  قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس 1994فى النقد الأدبى الحديث،
وعملت كمدرس مساعد لمادة النقد الأدبي  واللغة العربية فى قسم الأعلام بكلية التربية النوعية خلال عامي 1994 _ 1995، كما عملت فى التدريس بقسم التعليم المفتوح بالجامعة الأمريكية 1996
حصلت على جائزة الدولة  للأبداع عام 1996 عن مجموعتها القصصية الثانية  ( القطار لايصل الى البحر )
وكانت مجموعتها القصصسة الأولى ( لعبة التشابه ) قد صدرت عام1993 ( بها مقدمة نقدية للدكتور محمد حافظ دياب ) عن سلسلة اشراقات ادبية بالهيئة العامة للكتاب.
كما صدرلها كتاب : الخطاب الروائى عند غسان كنفانى .دراسة اسلوبية .. عن سلسلة كتابات  نقدية بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام  2003 . وصدرلها كتاب ( احلام صغيرة ) قصص للأطفال عن سلسلة كتاب قطر الندى بالهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2005، وصدر لها رواية قصيرة هي ( ظلال وحيدة )  على نفقتها الخاصة عام 2013، وصدر لها فى ابريل 2014 رواية للناشئة و للطفل عن دار الهلال بعنوان ((مملكة الفراشات ) ...سلسلة الهلال للأولاد والبنات.  وصدر لها  ديوان : رجل وامرأة ( قصائد نثرية )2017. وحصلت على جائزتين في القصة القصيرة عن قصة قصيرة واحدة من مجموعة لعبة التشابه  قى مجلة الهلال ، وفازت بجائزة المركز القومي لثقافة الطفل عام 1997 وفازت بجائزة ادب الحرب فى مجال أدب الطقل عام 2000.



قصة "رائحة الأشجار" - منار حسن فتح الباب قصة "رائحة الأشجار" - منار حسن فتح الباب تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في أغسطس 12, 2018 تقييم: 5

هناك تعليق واحد:

  1. منار حسن فتح الباب .. مسكونة بالشعر، هكذا تتحدث تلك القصة بكل مفرداتها وصورها التى تأتى طيعة ومنسابة دون استجداء، فتكسب الفكرة جمالا، ربما تتحدث القصة عن الشعر / الحلم / البعث/ الأب، ولا نندهش حين نقرأ ( صارت تنظر في المرآة كثيراً ولا تدرى أهو أبوها أم كائن آخر ربما تجسد في حلم ما أو ظهر في قصيدة كتبتها فجراً ) إنها تريد أن تنتج عالما آخر أكثر رحابة حتى ولو استحالت قطرة (ولهذا بدت مبتلة اليوم فقط بعد أن امتصت خلايا جسدها كما بدت الأشجار أكثر ازدهاراً.) قصة رائعة لكاتبة متميزة .

    ردحذف