Powered By Blogger

                   


 مـــوّدة


                قصة: زكريا عبد الغني


      

ـــــــــــــــــــــ

الأحاديث الخافتة تُنسج مع أشعة القمر, والتثاؤب الكسول يُجدل مع ظلال البيوت والضحكة المرنانة تسكن حيالها الجنادب قم تستأنف العزف من جديد, حديث "موّدة" في الساحة الرحبة كصليل الخلاخيل, يجتاح "صبري" كخربشات, ثم ينحسر ويتركه يلهث في صمت ملتهب, مجلس النساء في الليالي المقمرة بين البيوت مجلس أنس ومتعة, يحسبنه صغيرا فيسمحن له بمجالستهن, وما يدرين أنه ترك صيد العقارب بأعواد حديد مسننة, استيقظ داخله خدر لذيذ, ومشت على جسده عقارب كثيرة, تداعبه ولا تلدغه, فيقشعر على جسده عقارب كثيرة, ويوقظه في جوف الليل ثعبان فيجري إلى الساحة في ليالي الصيف, ويتخيل "موّدة" تتجرد من ملابسها وتغتسل بضوء القمر المصحوب بنقيق الضفادع تنادي إناثها في ليل طويل ما له آخر.
في مجلس الأنس يجلس قريبا منها لا يرفع عنها عينه, ينسكب ضوء القمر على وجهها, ناصعة جبهتها كطبق البلّور, تبرق عيناها في عتمة خفيفة مبهمة, تبرز وجنتاها وتلمعان, سمع عن التفاح الأمريكاني, يشتهيه ولم يذقه طيلة عمره الغض, تتندى شفتها السفلى برضاب شهي فتتلألأ كبلّورة سحرية في يد ساحر ماهر يجيد جذب الأرواح فتتهافت في فيض مغناطيسي, تنحدر عيناه أسفل جيدها فتضل بين تلين صغيرين, لمسُ القمم مغامرة محفوفة بالمخاطر قد يدفع الإنسان من أجلها عمره, ولا ملجأ إلا إيثار السلامة, والاستكانة المستفزة في ظلال البيوت المطرزة بأشعة فضية.
على بعد قريب, وعلى الجسر الموصل بين شطري القرية يتجول الصبية بأعواد الحديد المسننة, يبحثون عن العقارب الشاردة في ضوء القمر, فإذا ظفر أحدهم بواحدة صاح صيحة النصر, ترن ضحكة"مودة" وتجلجل صاعدة, تهتز النجوم ويختلج القمر, يتوهج القلب ويهم بملاحقة أمواج الضحكات لكن الجناح مكسور.
مل اصطياد العقارب, غرز سيخه المسنون في عشرات منها, وصاح صيحات مظفرة, وهلل وتقافز ورقص رافعا عود الحديد والعقرب تجدف في نهايته بأرجل متعددة, في البداية كان يخاف خوفا هائلا, في ليالي الصيف يتعشى ثم ينام موليا وجهه جهة الحائط, يغرز ذقنه بين ركبتيه ويرتعش, يتوهم العقرب قادمة, ترفع ذيلها وتخربش في الحصير, تصطك أسنانه ويغرق في لجة العرق, ثم يصيح صيحة مكتومة ينادي بها أمه, أعطاه أبوه سيخا ودفع به بين الصبية الصيادين.
خوفه جعله حريصا حذرا فغرز السيخ في بطنها منذ الليلة الأولى وصاح صيحة النصر, طعن الخوف فتبدد وتلاشى ثم صار خبيرا فاصطاد العشرات, حتى جاءت ليلة سمع فيها ضحكة "مودة" فاهتز العود في يده لكنه أصر على متابعة العقرب وعندما عاودت"مودة" ضحكتها ألقى بالعود إلى رفيقه وتسلل في ظل الجدار وفي مجلس الأنس وعلى مقربة منها جلس يلهث.
في طيات الأحاديث الخافتة وأمواج الضحكات المتلاحقة وغلالة الصمت السحري يتغلغل "صبري" حتى يتلاشى ولا يبقى منه غير قلب يدق, " مودة" الليلة ليست ككل ليلة, هو لا يدري أنها تبلغ الأوج عندما يكون البدر في تمامه, تكلمت كثيرا ورنت ضخكتها عاليا وشهقت أكثر من مرة كلما سمعت من إحداهن حديثا مخيفا.
بترت "مودة" ضحكتها الرنانة فاختل نظلم المجلس وتطلعن إليها, وقفت مذعورة تنفض جلبابها وتقول بصوت هزه الرعب إن عقربا تمشي فوق لحمها وتحت طيات ملابسها, خلعت الجلباب وألقت به فوقف "صبري", تقافزت فوق الأرض وضربت بيدها جانبيها, العقرب تحت القميص, بأياد جزعة انحنت وتناولت طرفه, رفعته وهي تتلوى كأفعى, انسلخ القميص من رأسها فسقطت عصابة رأسها وانسكب شعرها الأسود, جحظت عينا "صبري" في محجريهما, النهود الصلبة كحمامات بيضاء, مناقيرها حمراء, تزقزق عطشى, ارتعش"صبري", لم تبق إلا قطعة واحدة, العقرب تخربش ولابد, مدت يدها, توارى القمر خلف سحابة عابرة وعميت عينا "صبري".
لمحت إحداهن العقرب تجري تحت الجدار فسحقتها بشبشبها, هرب إلى النوم وولى وجهه جهة الحائط, ظل يرتجف حتى اصطكت ذقنه بركبتيه, اتقد جسده فنان نومة المحموم, ثم غرق في لجة من العرق ختى انتشله حلم لذيذ.

مودة.. من مجموعة ( محطة القطارات الخالية) / صدرت سنة 1994 عن مطبعة المعرفة بالقاهرة




قراءة لموّدة: مصطفى البلكي



زكريا عبد الغني، عالمه القصصي الذي يغترف منه, عالم عاش فيه وأصبح جزءا منه, يعود إليه كلما اشتاق له, وكما يقال متعبة الروح إذا ما اشتاقت, ومن منا استطاع أن يفك ارتباطه بالقرية, وبكل مفرداتها, هي كالنداهة دائما لها صوت, ولها نغمة, ولها إيقاع, يظل باقيا في مكانه حتى مع خضوع القرية لعوامل التغيير, وتحولها من الشكل البسيط في المعيشة والطقوس إلى حياة معقدة كحياة المدن والبنادر, وهنا في موّدة نجد قرية الستينيات, بملامحها الراسخة في صعوبة الحياة المتمثلة في المخاطر التي يكون الفرد عرضة لها, وفي المسامرات الليلة التي تحول أهلها لمجتمع مغلق, لكل جنس مكانه ومفردات حياته, ورغم كل هذه الحياة البدائية نجد أن الرغبة التي سكنت " صبري" الصبي الذي مشت في جسده عصارة البلوغ, نجده يفارق ما يقوم به باصطياد العقارب ليكون قريبا من جلسة النساء, وتشده موّدة بجمالها, فيظل يتابعها, حتى تكبر الغواية فيه, وتختزل المسافة بينه وبينها, من دون أن تدري بوجوده, فالحياة هنا تمنح قانونها الأبدي ألا وهو الستر جزءا من وجود.
في النهاية تلك الحياة التي يحاول الجميع احاطة النساء بستر وبحاجز, في لحظة ما يتم كسر الطوق, وهنا كان الخوف هو المعول الذي جعله موّة تنزع ملابسها, وتتحرر, لتكون كالجمر داخل نفس " صبري"..لتكون رفيقة له في رحلة يتنفس جسده خلاها اللذة من باب الرؤية .



تعـــريـــــف


زكريا عبد الغني
ـ قاص .روائي . ناقد
ـ عضو اتحاد الكتاب ونادي القصة.
ـ حصل على العديد من الجوائز الأدبية في القصة القصيرة والرواية.
ـ حصلت روايته " حالات الروح" على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية التجريبية.
ـ يعيش في مدينة أسيوط
صدر له
ـ وإذا الموءودة سئلت ..قصص قصية مكتبة الشرقاوي 1992
ـ جريد النخل العالي قصص قصيرة مركز الحضارة العربية
ـ محطة القطار الخالية  مركز الحضارة العربية
ـ النقش على الماء رواية
ـ بقع الضوء الملونة قصص 1996
ـ عزف الروح المنفرد قصص 1997
ـ قرابين قصص دار الكتب العلمية 1998
ـ نجع الخوالف  رواية دار الكتب العلمية 1999
ـ إلياس النحاس قصص دار الكتب العلمية 2000
ـ الغرف البنفسجية قصص دار الكتب العلمية 2001
ـ صيد اللحظات المراوغة دار الكتب العلمية 2002
ـ ليالي الأرق الطويلة  قصص دار الكتب العلمية 2005
ـ حالات الروح رواية  مركز الحضارة العربية 2006
ـ ارتعاشات النجوم البعيدة قصص مركز الحضارة 2007
ـ نسج الأشعة قصص دار الهلال 2008
ـ ثلاثية حكايات الأيام القديمة ( أبو خرص, قلم الإشارات, صباح العمر) رواية مركز الحضارة العربية 2010

تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في أغسطس 20, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: