Powered By Blogger

ملف خاص
القاص: حسين البلتاجي




أعد الملف، الروائي والقص: سمير الفيل

تعريف بحسين البلتاجي

ـ قاص .
ـ من مواليد قرية " شرباص " ، محافظة دمياط.
ـ عمل في مهن مختلفة : فران، صحفي بالقطعة ، عرضحالجي .
ـ توفى ودفن بمدينة دمياط.
ـ له مجموعتان قصصيتان:
1ـ الرقص فوق البركان .
2ـ المتوحشون.
ـ  كتب عنه: محمد مستجاب ، عبدالعال الحمامصي ، أحمد عبدالرازق أبوالعلا ، مصطفى كامل سعد ، سمير الفيل ، د. مدحت الجيار ، أشرف الخريبي ، وآخرون..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حسين البلتاجي
بقلم: سمير الفيل.
كان يكسب كثيراً ، وينفق كثيراً ، ما يهمه أن يضع رأسه علي الوسادة ، وينام فى هدوء بدون مليم واحد فى جيبه ، معجون بماء الورد وشقاء الدنيا .
الكتابة عنده حالة .. يكتب عن الطبقة الريفية التى عاشرها وعاش فى كنفها فقيراً إلا من موهبته .
عمل صحفياً بالقطعة ، وعامل يومية بالفرن ، واستقر علي مهنة توائم جريان القلم فى يده ( عرضحالجي ) أمام مكتب السجل المدني. يشمر أكمام قميصه ، ويكتب قبل أن ينطق الزبون . إنه عرضحالجي محترف ، يعرف كيف يخاطب الدوائر الحكومية ، المهم الامضاء أو البصمة على الطلب .
فى عودته من عمله ـ وكم رافقته فى العودة ـ ينفح الحوذي عشرة جنيهات مرة واحدة ، ويقابل أي صديق ليعزمه علي حاجه ساقعه وهو يقهقه :
- " ملعون أبو الدنيا "
يدخن كثيراً ، وحين يعكف علي الشراب طويلاً ، ينفلت لسانه ، ليشتم المتلونين والمنافقين وأنصاف الموهوبين ، ممن يعطلون أصحاب الموهبة الحقيقية والأصيلة .
يحب " شرباص "، قريته كثيراً ، وبيته المتواضع منقوع فى بركة المساكن الشعبية. يطل مباشرة علي الجبانة ، لقد حن إليها بعد مطاردة مستحيلة فدفن بدون قطعة رخام أو لوح خشبي يحمل الاسم ، فيما مئات القبور من حوله تضج بعلامات الثراء والأبهة والفخامة .
ـــــــــــــــــــــــــ

كتب: سيد الوكيل 
فيه ناس من الخمرة تصبح وحوش
وناس من الخمرة تصبح بشر

عندما قابلت حسين البتاجي لأول مرة، لم أكن أعرف عنه أي شيء، فيما كان هو يعرف عنى الكثير.. هيئته لم تكن تدل على أنه واحد من المثقفين الذين ألفنا أشكالهم، ونلقاهم في المقاهي والمؤتمرات، هذا مثقف بلا كوفية فلسطينية، ولا حقيبة معلقة في الكتف، ولا نظارة نظر شفافة، ولا كلمات متأنقة..
 ثم شيئ من التلقائية وصلني بسرعة، ربما لأنه كان مخمورا، وكان علي أن أقابله بمزيد من التحفظ، ولكني في النهاية وجدت نفسي أقبل دعوته، على فنجان قهوة 
في دقائق نجح حسين البلتاجي في أن يحطم الصورة الذهنية الدارجة عن الديماطي البخيل، تكلم بسخاء، وعبر عن مشاعره بكرم غير مسبوق، وكنت حريصا على أن أوجه مسار الكلام ليصبح عنه.
 بقدر قليل من الخبث، في الحقيقة أردت أن أعرف شيئا عنه، خجلت من نفسي، شخص يتكلم معى بكل هذه الحميمية ولا يقدم نفسه لي كدأب الأدباء، وأظل جاهلا به، وعاجزا عن مجاراته في الكلام. 
كان غاضبا فحسب.. غاضبا من كل شيء تقريبا، ويدخن كثيرا، ويشرب القهوة بعد الأخرى.
أظن القهوة نبهته إلى حيرتي وخجلي من نفسي، فاستجاب أخيرا ليكلمنى عن نفسه، لكن هذا لم يدم إلا دقائق معدودة، إذ دخل في نوبة من البكاء، ولم أجد بدا من أن أقوم، احتضنه وأقبل رأسه، فزاد نشيجه. 
وهكذا عبر عن نفسه بسخاء مفرط، فوقعت في غرامه من أول لقاء.
فكرت أنه كائن شفاف، كل مشاعره على سطح المكتب، لا شيء مختبئ أو مخفي. 
لكن عندما قرأت له، أدركت أن  ما في قصصه من المشاعر، أضعاف ما يمشي به في الشوارع، ويجالس الناس به على المقاهي. 
إنه كائن، جعل الكتابة، بديلا لذاته، لكنها لم تعطه بمثل ما أعطاها من حب. ربما لهذا كان كثير الغضب حتى العنف، ومفرط العاطفة، حد البكاء.  







كتب: سمير الفيل

في كتابي مواجهات ، إصدارات الرواد، العدد 53 ، سنة 2000 ، في حواري معه يقول:
لقد نشر لي إنتاج كثير جدا ، يمكن أن يكون عدة مجموعات قصصية ، لكن لم أكن أعطي اهمية كبيرة لعملية النشر في مجموعات أو في كتب إلا اخيرا، حينما حضر إلى مدينتي أحد النقاد المعروفين ، وأصر على اخذ مجموعة لنشرها في إحدى إصدارات هيئة الكتاب .
ـ تجربتي في الكتابة تنبع أصلا عن الواقع الذي أعيشه ويعيشه الناس حولي ، لا أفكر في موضوع خيالي ، ولا قضية فلسفية ، كما يفعل البعض ، بل آخذ شرائح من الواقع ، وأصيغها في العمل الادبي بطريقتي الخاصة.
ـ حصلت على درجة تعليمية متوسطة ، حصلت على الابتدائية ثم الثقافة ثم التوجيهية ، ولم ألتحق بالجامعة لظروف أسرية قاسية ، واشتغلت وكانت البداية في الصحافة. نزلت إلى القاهرة والتقيت برئيس تحرير مجلة فكاهية ساخرة اسمها " البعكوكة " ، دخلت مكتبه .
 وقلت له: أكتب قصة. واريد عملا .
 فقال لي : هل من الممكن ان تكتب لي قصة في خمس دقائق ؟
قلت له: أحاول.
أعطى لي قلما وورقة ، وبالفعل كتبت له قصة في أقل من المدة التي حددها . كتبت ما ورد على ذهني . ليست قصة مكتملة تشتمل على الفنية المطلوبة ولا أي شيء من ذلك.
أعطيته الصفحة فقرأها وقال لي : جيدة. ممكن ان تتسلم العمل من باكر. سأعطي لك خمس جنيهات في الشهر .
وهو مبلغ معقول سنة 1952 ، وفي اليوم التالي أجلسني في غرفة خاصة للرد على رسائل القراء ، وكان أمامي على المكتب الآخر المرحوم محمد كامل حتة ، وعن طريق العمل في هذه المجلة ـ وكانت مجلة فكاهية سياسية ـ تعرفت على الواقع الادبي في القاهرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت الحوار معه كاملا في جريدة" اليوم" السعودية التي كنت اعمل محررا فيها بمدينة الدمام في 29 نوفمبر 1992.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محنة حسين البلتاجي : اللغة تحتاج إلى مكتشف جديد !

عاش البلتاجي حياة فقيرة ، متقشفة ، وعانى شظف العيش ، وكانت قصصه معبرة عن الشرائح الاجتماعية التي خاضها فقد عمل فترة طويلة في فرن قبل أن يستقر به الحال ك" عرضحالجي " حر.
فترة طويلة من الزمن كان يعيش مع أشخاص يعجنهم الفقر ، كما أن بيته كان يقع في المساكن الشعبية " النمط الصيني " حيث أبواب الشقق متجاورة للغاية. وأظن وضعه الاجتماعي اثر كثيرا في كتاباته وطريقة معالجة قضاياه .
يعتمد النص الذي حمل عنوان" يوسف .. نون" على تكنيك التقطيع ، فهناك عناوين جانبية ، ومشاهد متتالية ، لا يبدو للمتلقي ثمة ارتباط بينها.
ونتساءل: من يوسف ؟
هل هو صديقه يوسف القط.. الكاتب الملتاث ، والذي يضرب في الطرقات بلا هدف ؟ ام هو " يوسف النبي " الذي تعرض للمحنة بعد أن اشتهته امرأة العزيز كما جاء في النص المقدس؟ أم هو " يوسف" الإنسان الذي يعيش وقائع هذا العصر ؟
يترك الكاتب متلقيه يضرب أخماسا في اسداس ، ويعالج مشهد تفتق الحياة عن فجر لكنه لا يحمل النور كما نتوقع بل يجعل البطل نفسه يتلفع في الظلام. امرأة البطل تبكي واللغة غير قادرة على حل المعضلة. لعلها نقطة لبحث عن حقيقة ما.
الشفق دائما ما يصطبغ بالحمرة القانية لكن المقطع السردي التالي يجعلنا نواجه شفقا باللون الأسود. والبطل ينتظر ، ومعه آخرون ينتظرون . إنه يغوص في مستنقع آسن ، ويضطر لكي يتجاوز المحنة أن يشارك امرأته البكاء.
من المفترض أن يأتي الصبح ليزيح الظلمة ، ويبدد الشعور بالإثم لكن بطل النص يعترف أنه يغوص في " الوحل" ، بسواده المميت، وهو يضحك ساخرا من عدم قدرته على التفاعل مع ذلك الوسط المضطرب.
يقتحم القاع الدنس المشهد ، ويرى البطل " يوسف " وحين يراه ترد الروح له ، ويرى عينيه مفقوئتين ، منهما تسيل دماء بيضاء . حين يواجه يوسف يطعنه بكذبة أو بنصف حقيقة : " أنت لست أنت"!
ينتهي النص القصصي بجمل اعتراضية لتنقل الاحداث من مستواها الترميزي إلى رقعة الواقع بكل إحباطاته .  يبدو أن تلك الجمل لا تسهم مساهمة فعالة في كشف العلل ، ذلك ان اللغة نفسها تعجز عن القبض على الحقيقة . اللغة تحتاج إلى مكتشف جديد غير جاليليو ودارون.
النص يشيع روح العجز ويعكس محنة الإنسان في الوجود ، حيث لا يوجد يقين وهو ما ينعكس كذلك على التشكيل الدرامي الذي نراه ممزقا ، مشوشا، ليعبر بصدق عن التفسخ الاجتماعي والانهيار الشخصي . إنه رقص حميم فوق البركان. وقد أراد القاص من نصه ان يحمل رسالة مؤلمة حيث التفسخ وانعدام الرحمة ، والعماء الكامل ، كلها مصير الكائن البشري .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ













يوسف .. نون

قصة: حسين البلتاجي.


الفجر أعمى
الفجر يمشي في الطريق وئيدا وئيدا . وأنا أنتظره . ربما كنت وحدي .. وربما كان غيري آخرون ينتظرون . لكني وحدي ، كنت اتلفع بالظلام . أحتسي بنهم شبقي حثالة كاس الضباب .. وكانت امرأتي تبكي بجواري ، والسين تجر الصاد في درب، واليل يضحك مفتوح العينين ، فأضطر أن أشارك امرأتي البكاء !
***
الشفق الاسود
حلت اللحظة الغاشمة . قاسية كفوهة بركان فائر ، وانسحب الفجر الأعمى متراجعا ، وتقدم الشفق الأسود وئيدا وئيدا . وأنا انتظره. ربما كنت وحدي. وربما كان غيري آخرون ينتظرون . لكني كنت وحدي ، أستحم في المستنقع . أغوص بتلذذ في غيبوبة الألم . وكانت امرأتي بجواري تبكي. والميم تجر النون في طريق سفلي ، والصبح يشرق بالدمع ، فأضطر أن اشارك امرأتي البكاء !
***
ملاحظة
السين والصاد .. والميم والنون .. أحرف غير ذات دلالة .
***
الصبح الباكي
كنت أغوص في بحيرة الظلام المشمس . على مهل أغوص ، حتى فروة الرأس، غطاني الوحل . وكانت الأضواء الكابية في العمق ، ترتشق حبيبات عيني .. وودت لو أبكي ، لكني لم أستطع ، فضحكت ساخرا من عدم قدرتي ، ورددت الأشياء المهملة في القاع أصداء ضحكتي . في هذه اللحظة بكيت ، ورأيت الصبح الباكي يشاركني البكاء ، فاضطرت زوجتي التي كانت بجواري أن تشاركني البكاء.
***
القاع الدنس
في قاع المستنقع ذي الأطراف الهلامية ، رأيت يوسف . كنت أبكي في اللحظة الأخيرة ، ثم كنت سأموت ، لكني حينما رأيته ، ردت إلى الروح . استبدلت البكاء بابتسامة . قلت له وهو لا يسمع ولا يرى : " يا يوسف .. أأنت هنا؟" .
 لم يرد . غمزته بطرف إصبعي السبابة اليسرى ، فالتفت عابسا . رأيت عينيه المفقوئتين اللتين تسيل منهما الدماء البيضاء.
قال ، وهو يمد أصابعه في فراغ اللحظة : " هل أنت انت ؟" .
 فلما قلت أنني هو أنا .. ابتسم كاشفا عن أسنان تلمع كوميض مدية تحت الشمس ، وقال بلا حقد :" أنت لست انت! ".
***
أحرف غير ذات دلالة
" ج. م. ح ".
***
جمل اعتراضية
1ـ الفجر أعمى ، لكنه يجعلنا نرى.
2 ـ الشفق أسود ، لكنه ينير القلوب .
3 ـ الملاحظة ، غير ذات معنى كالأحرف سواء بسواء .
4 ـ الصبح الباكي ليس له عيون.
5 ـ القاع الدنس ، موحل ودنس .
6 ـ الأحرف ، تحتاج إلى مكتشف جديد ، غير جاليليو ودارون والأتقياء.
***
النون
" نون ، والقلم وما يسطرون".
* نشرت هذه القصة في مجموعة  " الرقص فوق البركان" ، الصادرة عن سلسلة " إشراقات أدبية" ، رقم 47 ، سنة 1989.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ












تمت مراجعته من قبل سيد الوكيل في سبتمبر 15, 2018 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات: